عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية
د. ناصر زيدان
22 فبراير 2016
ذكر القيصر بطرس الاكبر مؤسِّس الامبراطورية الروسية في البند الثامن من وصيته التي نُشرت عام 1725: “لا تنسوا العمل الدائم للسيطرة على البحر الاسود، والزحف جنوباً للإستيلاء على القسطنطينية، لأن مَن يسيطر عليهما يحكُم العالم (كتاب روسيا وارثوذكس الشرق، رؤوف سنو، ص 274). وما زال في ذاكرة الروس ان القسطنطينية عاصمة البيزنطيين التاريخية التي دخلها السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453؛ يجب ان تعود مقراً حُراً للكنسية الشرقية.
تلك الاحداث التي طواها التاريخ، تفعل فعلها في المحطات الصعبة، وتعود الاوهام والاحلام الامبراطورية لتتغذَّى من معجن الاساطير القديمة، وبأدواتٍ وتقنياتٍ عصرية جديدة.
لا ينفصل ما يجري في شمال سوريا عما جرى في اوكرانيا – وتحديداً في جزيرة القرم في ربيع العام 2014 – فبسط السيادة الروسية على الجزيرة التي تقع في عمق مياه البحر الاسود، يُشبه ما قامت به الامبراطورة الروسية آنا اوفانوفا في العام 1736 عندما احتلت الجزيرة وطردت سكانها الاصليين من التتار وابعدتهم الى تركيا.
والهزيمة التي لحقت بالروس في العام 1855 على يد الاتراك، وبمساعدة البريطانيين والفرنسيين، ردوا عليها بالهجوم الواسع على العثمانيين في العام 1877، ووصلوا الى ضواحي القسطنطينية. وتهديدات روسيا لتركيا اليوم -اذا ما اجتاحت قواتها سوريا- تُشبه تهديدات الامس، ولكن بأدوات قتالية اكثر خطورة.
التجاذبات الروسية – التركية تفاقمت منذ اسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية في 24 /11/ 2015 على الحدود مع سوريا. وتكاد التوترات التي تحصل اليوم في شمال سوريا تُهدِّد المنطقة برمتها، اذا لم نقُل العالم – وتُنبيء بنشوب حرب عالمية ثالثة؛ على ما قال حرفياً رئيس وزراء روسيا ديمتري مدفيديف.
جيوبوليتيك المساحة المترامية التي تمتد من اوكرانيا مروراً بالقُرم وسواحِل البحر الاسود والمضائق التركية وصولاً الى سورية وشواطىء البحر المتوسط الشرقية؛ حساسة، وخطِرة، ولا يمكن تجاهل اهميتها في سياق تصارع المصالح الاقليمية والدولية، وفي الوقت ذاته؛ لا يمكن التسليم بالسيطرة عليها من قبل طرفٍ دوليٍ، او اقليميٍ واحد.
تلعب روسيا بالاوراق التي تمتلكها لتحصين نفوذها في المنطقة، وفي تدخلاتها العسكرية شيءٌ من المغامرة، يمكن ان يُسبِبَ لها متاعِب، اكثر مما يمكن ان يأتي لها بالفوائد، وربما تكون قد وصلت الى نقطة اللاعودة. فمجهودها العسكري الى جانب النظام في سوريا؛ مُكلف مالياً وسياسياً. والاعباء المالية تأتي في ظروف غير مُلائمة، لأن الاقتصاد الروسي يعاني من صعوبات كبيرة، بحيث وصل سعر صرف الدولار الاميركي الواحد الى 90 روبل روسي (وهو رقم غير مسبوق) وسط تدهور اسعار النفط والغاز اللذين تعتمد عليهما روسيا في تحصيل العملات الاجنبية.
اما التكاليف السياسية للتدخُل الروسي؛ فهي باهظة ايضاً، لأن موسكو ستكون مُتعبة جداً إذا ما استمرت بسياستها، لأن صداقاتها العربية – وربما الاسلامية عامةً (ما عدا ايران) – ستكون مُعرَّضة للضغوط، لا سيما مع مصر ودول الخليج وهؤلاء كانوا حريصون على تطوير العلاقة مع روسيا – حتى بعد تدخُلها العسكري في سوريا – وزيارة ملك البحرين الاخيرة وزيارة الملك السعودي المُرتقبة لموسكو، خيرُ دليل.
امَّا تركيا، فهي تتخبط بفوضى سياسية وامنية كبيرة. وبعض الخطوات التي قامت بها في الماضي القريب لم تكُن لصالحها؛ فهي استعدَت مصر، واستفزَّت روسيا بإسقاطها السوخوي، ويبدو انها لم تقرأ جيداً مسار التواصل بين ادارة اوباما الاميركية وقادة الكرملن، ولم تُسهل عمل المعارضة السورية المُعتدلة منذ البداية. وقد استفاد من سياسة التردُّد التركية بعض الارهابيين في “داعش” وتمرَّدت على انقرة مجموعة من المنظمات الكردية. وتركيا لا تستطيع بمفردها رد المخاطر التي تتهددها، ولا يبدو حلفاءها الغربيين مُتحمسين لمساعدتها، خصوصاً في مواجهة الروس.
تغيير التوازنات السياسية في الجنوب الأُوراسي؛ مسألةٌ في غاية الصعوبة، وتحمل اخطار كبيرة في آن. كما ان الطموحات الوهمية في حسم المعركة في سوريا لمصلحة النظام – بعد المآسي التي تسبب بها – هدفٌ صعب المنال، وهو إخلالٌ بموازين القوى في المنطقة، لا تسمح فيه تركيا، ولا المملكة العربية السعودية وحلفائها.
مناورات “رعد الشمال” في المملكة العربية السعودية ليست معزولة عن التطورات الساخنة في الشرق الاوسط برمتهِ، وواضح ان القوى التي لا تستسيغ التدخُل الايراني السافر في الشؤون العربية؛ اخذت قراراً بوقف التراجعات العسكرية والسياسية التي حصلت بغفلةٍ منها في اكثر من دولة، وعلى وجه الخصوص في سوريا واليمن.
الاهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية – والجنوب الاوراسي لا تتحمل هزيمة لأي من القوى الاقليمية، او الدولية الكبرى. والتداخُل العرقي والديني الموجود، يُفاقم هذه الحساسية. إضافة الى ذلك؛ فإن اعتبارات ” الجيوإكونوميك ” المرتبطة بموضوع النفط والغاز، ضاعفت من اهمية هذه البُقعة من العالم. فالمخزونات النفطية والغازية الواعدة في عدد من الدول- ومنها سوريا- وخطوط جرّ الطاقة التي تمرُّ في بلدان ومياه المنطقة؛ فيها مصالح عُليا للدول –ومنها روسيا– ولا يمكن الاستخفاف بها. وهذه العوامل لم تكُن موجودة إبان الحقبات السابقة من الصراعات، لا سيما في القرن التاسع عشر، وفي مرحلتي الحرب العالمية الاولى والثانية.