مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية
د. ناصر زيدان
12 يناير 2016
يُؤخذ على جامعة الدول العربية غيابها عن مواكبة الاحداث التي تعصف بالوطن العربي ودولهِ المتعدِدة. بالمقابل فإن اسباباً تخفيفية قد تُمنحُ للجامعة على تقصيرها في مرحلة حساسة وخطرة عصفت بالمساحة العربية برُمتها، وحصل تباين واسع بين بعض مكوناتها، وتلافياً للإنقسام فضَّل القيمون على العمل العربي المُشترك خفض سقف التعاون، كحل مؤقت ريثما تمرُّ العاصفة، على حد تعبير احد المساعدين للأمين العام للجامعة.
ذلك الإخفاق، وتلك التراجعات كانت محلُ امتعاض من الاوساط الشعبية، ومن بعض النُخب ومن قادة الرأي، على اعتبار ان الإنكفاء لا يجوز في وقت الشدَّة، حيث الحاجة تتضاعف للدور الجامع. وقد ساهم الترهُل في العمل العربي المُشترك إبان السنوات الماضية في زيادة الشرذمة والتفكُّك، وبالتالي فقد قدم الانكفاء العربي خدمة كبيرة للمُتربصين شراً بالامة العربية، وفي المُقدِمة منهم “اسرائيل” وزاد من اطماع الجيران، وفاقم تدخلاتهم الوقِحة في الشؤون العربية.
مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في 24 كانون الاول/ ديسمبر 2015 بناءً على طلب العراق، كان مؤشراً على الاستعداد العربي لإستعادة المبادرة، وقد اخذ المجلس موقفاً واضحاً من التغلغُل التركي في الاراضي العراقية في شمال البلاد، وساند الحكومة العراقية بمطالبتها انسحاب الوحدات العسكرية التركية فوراً الى خارج الحدود، برغم ان بعض الدول العربية تربطها علاقات صداقة مع تركيا.
قد تكون الإنطلاقة الاوضح للدينامية العربية حصلت في الاجتماع الذي انعقد لمجلس وزراء خارجية الجامعة في 10 يناير/كانون الثاني 2016 بطلب من المملكة العربية السعودية في مقر الجامعة بالقاهرة، ذلك ان صدى الموقف الذي اتخذته الجامعة ضد الهجمات التي استهدفت السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مدينة مشهد، كان واسعاً جداً. وللمرة الاولى يتحقَّق مثل هذا الإجماع على قرار منذ فترةٍ طويلة.
وفي هذا السياق؛ لا يجوز تكبير موضوع إمتناع لبنان عن التصويت على القرار، نظراً لحساسية الاوضاع في لبنان، ولكون الدبلوماسية اللبنانية تعاني من تجاذبات مستعصية منذ فترةٍ طويلة، زاد من هشاشتها الانحلال الدستوري الذي يُصيب مُعظم المؤسسات الشرعية اللبنانية من جراء الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية.
وزير خارجية مصر سامح شكري كان واضحاً ربما اكثر من غيرهِ امام الاجتماع الوزاري العربي، وهو اعلن عن توتر يشوب العلاقات العربية – الايرانية منذ عشر سنوات. والاختلال ناتج عن تدخلات ايرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية. اما رئيس الجلسة وزير خارجية دولة الامارات العربية عبدالله بن زايد؛ فقد اشار الى ان الدول العربية صبُرت بما فيه الكفاية على التدخلات الايرانية التي شجعت على الفرقة الطائفية، ومدت بالسلاح والمال مليشيات مارست اعمالاً ارهابية في اكثر من دولة عربية.
“اسرائيل” التي تتربص شراً بكل الدول العربية والاسلامية هي المُستفيد الاول من طبيعة الاحداث التي تجري في المنطقة، وهذه الاحداث تخدمُ سياستها من دون ادنى شك والطبيعي في السياق السياسي ان يكون هناك تعاون بين الدول العربية وايران في مختلف المجالات، ولكن التعاون يفرض احترام كل طرف لخصوصيات الطرف الآخر، وهذا ما لم يحصل. فتدخل ايران في اليمن وسوريا ولبنان والعراق ودول الخليج وعلى الساحة الفلسطينية، خلق اشكالاتٍ كبيرة، وادى الى شرذمة الصفوف، وشجع بعض الحركات الانفصالية، وانتج اجواء مذهبية لم تَعتد عليها المكونات العربية منذ قبل.
وزير خارجية العراق ابراهيم الجعفري – الذي حظي بمساندة الجامعة لموقف بلاده من التدخُل التركي – طرح مبادرة للتهدئة مع ايران. ولكنه صوَّت الى جانب القرار العربي، وهذا تطور في منتهى الايجابية، وكذلك فعلت الجزائر التي كانت تتردد في اتخاذ موقف في السنوات الاخيرة. وتؤسس هذه المقاربات الجديدة الى مرحلة من التعاون العربي الذي قد ينتشل التعاون من قعر الوادي الى سفوحٍ واعدة.
امين عام الجامعة العربية نبيل العربي دعا الى ضرورة عقد مؤتمر استثنائي لبحث التحديات التي تواجه الامن القومي العربي. وما يُحِيط بالوضع العربي من مخاطر يستوجب عقد مثل هذا المؤتمر، فالتدخلات الخارجية في شؤون الدول العربي ازدادت على وتيرة غير مسبوقة، وحوَّلت الساحات العربية اماكن لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى، وبين بعض الدول والمجموعات الارهابية. والمواطن العربي يدفع ثمن هذه التجاذبات من دمائه وممتلكاته، ومن مستقبل ابنائه. و ” اسرائيل ” تُعربِد مستغلةً الاوضاع المأساوية، وتنكِّل بالشعب الفلسطيني يومياً، وتزيد من قضم الاراضي وبناء المستوطنات الجديدة من دون رادعٍ.
ما زالت الفرصة مُتاحة امام جامعة الدول العربية لكي تقول كلمتها الفصل في شؤون الامة. فوحدها الارادة العربية المُشتركة، يمكن ان تُنقذ الوضع العربي مما يتخبَّط فيه. والمخاطر ستزداد اكثر فاكثر اذا لم تبادر الجامعة الى مواجهة التحديات، ولن تبقى دولةٌ عربيةٌ واحدة بمنأى عن الخطر. ووحده تفعيل دور الجامعة يفرض نفسه على مختلف الجهات، ويمنع التدخلات المتمادية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا، ويقف في وجه العدوان المتصاعد على الشعب الفلسطيني. وإذا ما توافرت الارادة العربية فإن الكثير من الازمات المُستعصية قد تكون قابلة للحل من دون انتظار التدخلات الدولية، وهذه التدخلات تتحكم فيها مصالح الدول الكبرى، ولا تندفع عادةً لتحقيق مصالح الشعوب .