كمال جنبلاط في مولده الأول بعد المائة: تعاليمه وأفكاره ما زالت الحلّ/بقلم عزيز المتني
6 ديسمبر 2018
في الذكرى الأولى بعد المائة لمولد كمال جنبلاط (6 كانون الأول سنة 1917 – 6 كانون الأول سنة 2018) ما أحوجنا للعودة إلى الأصول والينابيع لنذكّر ولنؤكد بأن ما وضع وارسى وأسس من تعاليم وأفكار ومبادئ لاتزال صالحة وملائمة ومؤاتية للخروج مما تتخبط فيه من ضياع وأزمات ومعضلات قد تودي بنا الى المجهول والأسوأ والأشد خطورة سواء على الصعيد الداخلي في لبنان، أو في المنطقة العربية والإقليمية المحيطة المأزومة والمعقدة في آنٍ معاً.
كمال جنبلاط المفكر والفيلسوف المتجرد، صاحب النزاهة والشفافية والرؤية المستقبلية هو الذي كان يحرك السياسة والسياسيين في لبنان. قيم كمال جنبلاط وأفكاره هي المحرك. برنامج كمال جنبلاط الإصلاحي والتطويري والتقدمي تجسد في ميثاق التقدمي الإشتراكي الذي أطلقه في الاول من شهر أيار سنة 1949، وأراد له كمال جنبلاط ان يتخطى الطوائف والطائفيين ليقيم دولة الشعب الواحد، دولة المواطن الحر والشعب السعيد. بمعنى أن يكون لبنان وطناً حراً واللبنانيون شعباً واحداً سعيداً. وان يكون الوطن للمواطنين لا إطاراً للطوائف. وان سعادة الشعب، لا حقوق الطوائف، تشكل التحدي لتأمين حقوق الإنسان وحاجاته من خلال إشتراكية تقدمية إنسانية منفتحة على قيم توفر منهجاً تطويرياً لترسيخ مفهوم المساواة والحرية في آن معاً، لا الواحدة على حساب الأخرى.
أما المنهج الذي اتبعه كمال جنبلاط فيرتكز على أن يبقى لبنان بمنأى عن أن يكون ساحة لتناقضات الآخرين وصراعاتهم ثم حروبهم، وهكذا كانت قيادته الفذة للحزب التقدمي الإشتراكي منهجاً ومثالاً يؤكد على أن الإستقلال يتجاوز مظاهر السيادة القانونية والشكلية الى ان تصبح إستقلالية الإرادة التي بلورها الحزب بقيادة كمال جنبلاط ومارسها مكوناً أساسياً في ثقافة إستقلالية القرار. وكان في تلك المرحلة مع خليفة غاندي رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والقائد العربي جمال عبد الناصر وغيرهما ركناً أساسياً من أركان الفكر الذي عجّل في حركات التحرر الوطني في القارتين الإفريقية والآسيوية.
وقلة من الناس ربما يعرفون أن كمال جنبلاط انتخب رئيساً لإتحاد وكتاب آسيا وإفريقيا، وجُدد انتخابه لأكثر من مرة واحدة ولسنوات وسنوات. وان كمال جنبلاط ترأس المؤتمر الثالث لهذا الإتحاد والذي انعقد في بيروت سنة 1967 بمشاركة جمهرة من كتّاب آسيا وافريقيا.
وشكّل كمال جنبلاط نموذجاً لاستقامة خطابه العام – الصدق في القول والصدق في الفعل… لأن ما ينويه كان دائماً ما يقوله ويُصرّح به ويحاضر فيه، ملتزماً الشفافية والوضوح ومستهدفاً الإقناع ومجتنباً الإملاء. وهذا بدوره جعل كمال جنبلاط يتخطى بشكل ملهم موروث الزعامة التقليدية، المتجددة على الدوام، إلى أن يكون أحد القادة العرب ودورهم في عالم لم ينظر الى لبنان، لا من حيث الحجم الجغرافي، بل من حيث عطاءاته الفكرية والثقافية كما أرادها جيل النهضة: من المعلم بطرس البستاني الى أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وعمر فاخوري ورشيد نخله ويوسف السودا وشبلي الملاط وغيرهم وغيرهم، ممن لم يلفتهم تزمّت الطائفيين ودعاة الإنغلاق والإنعزال.
من هذا المنظار تعود الذاكرة هذه الأيام الى ما كان يُمثله كمال جنبلاط من صلابة موقفه ومرونة أدائه. وفي هذا الزمن الذي يتحول فيه القلق الى خوف معظم الأحيان، تجيء ذكرى مولد هذا الفيلسوف الحكيم كتحريضٍ لنا جميعاً لتوظيف تراثه المعطاء فنسهم في إستعادة ثقافة النهضة، وعظمة التواضع، والنفاذ الى جوهر الدين، وشمولية المقاومة. وهو الذي شدد على الدوام إن كل نضال: إما أن يكون وطنياً جامعاً أو لا يكون.
وكم نحن في حاجة إلى أن نستعيد هذه الأيام نضال كمال جنبلاط من أجل المزارعين والإنتاج الزراعي عامة ودعمه وتعزيزه وإيجاد الاسواق لمنتجاته.
وفي هذا المجال تعود بنا الذاكرة الى مهرجان بتخنيه التاريخي الذي أقامه الحزب التقدمي الإشتراكي سنة 1965 في بلدة بتخنيه في المتن الأعلى وتمثل فيه لبنان، كل لبنان، من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه وبقاعه والجبل بالتأكيد… وإلى قيادة كمال جنبلاط تظاهرة مزارعي التبغ في الجنوب والتي جرت في بيروت في 28 كانون الثاني سنة 1973، مؤكداً على عصاه لأنه كان يعاني من بعض الآلام في رجله… وإلى تشديده الدائم على ضرورة حماية الصناعة اللبنانية وتعزيز دورها وتأمين الأسواق لمنتجاتها باعتبارها المجال الأرحب لاستيعاب اليد العاملة اللبنانية.
واعتمد كمال جنبلاط على فكره الجدلية كوسيلة للتوعية تسعى لتحقيق التقدم الذي هو من حقّ الجميع. وهو لذلك رفض ما يُسمى التعايش المشترك واعتبره مفروضاً كوسيلة للمحاصصة وتوزيع المغانم، فيما المطلوب: الإعتراف بالآخر وقبول الآخر بوعي وحوار ومحبة عقلانية.
ولعل كمال جنبلاط هو الوحيد بين رجال السياسة في لبنان الذي مارس النقد الذاتي الموضوعي البنّاء، وعلى الأخص في مقدمة كتاب “ربع قرن من النضال” الذي لخّص نضاله ونضال الحزب التقدمي الإشتراكي في الفترة الممتدة من تأسيس الحزب الأول من أيار سنة 1949 إلى الأول من أيار سنة 1974. ومما كتبه في هذا المجال قوله:”كنا مثاليين وساذجين أحياناً. وقد صُدمنا بقوة الكيان الطائفي الذي يتنازع زعماؤه على المكاسب والحصص، ويتوحدون لمنع التقدم والتطور والوعي عن الشعب اللبناني”.
كان من قدر كمال جنبلاط ومن صلب رسالته النضال، منذ مطلع عهد الإستقلال سنة 1943، في اربعينات القرن الماضي، لإصلاح النظام السياسي في لبنان، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي يرتكز على تجسيد إرادة الشعب وتحقيق العدالة الإجتماعية التي توفر العلم والعمل والحرية والمساواة لجميع المواطنين وعلى تأمين التوازن والتناغم والتعاون الإيجابي بين السلطات، وتحقيق المناصفة في عدد النواب وفي وظائف الدرجة الاولى في مؤسسات الدولة، ريثما وبانتظار ان يقوم النظام المدني والدولة المدنية ويتحقق الإصلاح الشامل في السياسة والإدارة والمجتمع والتربية والصحة والقضاء.
ولو سمعوا من كمال جنبلاط منذ سنة 1944، وأخذوا بطروحاته، لما تعرض لبنان ولا يزال لهذه الأزمات المتواصلة التي حالت وتحول دون بناء الدولة والوطن.
وكان كمال جنبلاط يرى في ما يُسمى “الميثاق الوطني” مجرد لقاء طوائفي بين البطريرك الماروني ومفتي المسلمين السنّة ويؤكد ويُشدد على أن البلاد هي في حاجة إلى ميثاق وطني يتضمن ويحمل المضامين الإصلاحية الثابتة في الإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي ويرتكز إلى إقامة دولة الشعب الواحد الموحّد، (مع الحفاظ على التنوع ضمن الوحدة وعلى التعددية الحضارية والثقافية) دولة القانون والمؤسسات والعدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.
ويبقى أن مولد كمال جنبلاط هو والضياء سواء.. في مولده تُزهر الأرض وتخضوضر.. وفي مولده يُشرق الامل والرجاء في أن يكون لبنان الغد هو وطن الإنسان الحر الكريم، المعزز بالكرامة الإنسانية منذ المولد حتى المصير.. فلا يبقى حانوتاً للعصبيات وديمقراطية لهستيريا فوضى الغرائز، ودولة للفساد والإفساد ويقودها تجار سياسة وتجار طائفية نحو الانهيار والبوار وسوء المصير.
وألف تحية وسلام على روح كمال جنبلاط: يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعث حيّاً…
(الأنباء)