تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

د. ناصر زيدان

لمواجهة مرحلة الإنسداد السياسي والإقتصادي والثقافي التي تواجه الأمة العربية؛ لا بد من هيكَلة واضحة تشمل التعامُل بجرأة مع مُعظلات السنوات القادمة، بما في ذلك وضع أجندة للتنمية؛ الآنية أو المرحلية، والاستراتيجية البعيدة المدى، ذلك وفقاً لمقاييس تأخُذُ بالاعتبار إخفاق المُحددات السابقة، والتي أنتجت فشلاً واضحاً على المستويات كافة، لا سيما على المستوى الإقتصادي، والثقافي، والاداري، وغدت الساحات العربية ميادين سباق لعرض الابتكارات التي نجحت في بعض الدول الغربية، وكنا نُقلِدُها تقليداً كاملاً، ونستهلكُ هذه التجارُب، كما نستهلك السيارات الجديدة القادمة إلينا من البلاد البعيدة، من دون الإضافة عليها، أو محاولة تعديلها، أو تكييفها مع خصوصية واقعنا العربي.

لا ننكُر أننا إستفدنا من التطور العلمي الذي وصلنا من الغرب؛ أو من أقصى الشرق، خصوصاً من الثورة الرقمية الهائلة التي فرضت نفسها على كل شعوب العالم. ولكن هذه الثورة التي أنعشت شعوب الغرب وأقصى الشرق، لم تُخفِف  – كما كان ينبغي – من تفاقُم المُشكلات الاقتصادية والاجتماعي والأمنية والنفسية والفكرية في بلادنا.

لقد فشلنا في إستيعاب الانفلاش التقني الهائل الذي حصل في العالم، برُغم المجهودات الجبارة التي بُذِلت  في بعض الدول العربية. فالهجرة العربية تزداد بحثاً عن إستقرارٍ أمني وسياسيٍ واقتصادي، كما أن مستوى البطالة يرتفع، والفقرُ والامية مرضانِ مُستحكِمان، ولا تنقصهما عوامل التكاثُر، او الاستنساخ.
ومرحلةُ الخراب العربي، يُقابلها مرحلة من العمى الغربي. وهذا العمى الغربي ساعدنا “مشكوراً” على التدحرُج إلى قعر الوادي، وجرَّ بموقفه هذا ويلاتٍ اصابتنا، وأصابته في آنٍ واحد.

لا يمكن لنا أن نبقى مُتفرجين أمام ويلات الانحطاط الذي نعيشه، ومقومات الخروج من النفق المُظلم متوافرة. أحياناً ينقصها الرؤية، وأحياناً ينقصها الأجندة، وغالباً ما كان ينقصها القرار والاستقرار.

أشدنا البناء العربي بالحجارة الفارغة وبمداميك محشوة بالأمن الاستخباري،  تنقصها المواد الصلبة، فانهارت على رؤوسنا، ولم نُحقِق إستقراراً في الأمن. والبناء بالأمن؛ مقاربة فاسدة، تحافظ على الفساد الموجود، وتعمل لإفساد ما هو صالح. لقد نجا منا بعضاً، والبعض الآخر ما زال يتخبط بمهالك الفساد المُتنوعة… من الفوضى إلى الاقتتال الداخلي، إلى الإنجرار وراء طموحاتٍ إمبراطورية مُتجدِدة من خلف الحدود.

الدورة الزمنية المُستقبلية، قد تكون سانحة لتأسيس مقارباتٍ أكثرُ واقعية، وتستفيد من أخطاء الماضي. تُعطي الأولوية لإنتاج بيئةٍ حاضنة للإستقرار المنشود. ربما تكون بعض مؤشرات هذه الدورة الزمنية قد بدأت إنطلاقاً من أرض الكنانة، من خلال الشروع السريع بتنفيذ رُزمة من المشاريع الإنمائية، في مجال النقل والصناعة والزراعة وإنتاج الطاقة.

إن آفة البطالة تُكافَحُ بإيجاد فُرص العمل، وليس بأيِ شيءٍ آخر. وفرص العمل تحتاج إلى تنمية إقتصادية، وإلى استثمارات واسعة. والتنمية والاستثمارات يحتاجان إلى بُنية تحتية تشريعية ملائمة، وإلى الاستقرار والانتظام.

إن إنشاء المشروعات الإنتاجية الصغيرة، قد تكون جزءاً أساسياً من الحل، وذلك يحتاج إلى تعميم الثقافة الانتاجية الشاملة في المنزل والمصنع والحقل وفي الأسواق، من خلال تعميم الثقة بالوطن، ومن خلال تأمين البُنى التحتية المناسبة للبيئة الانتاجية، بما في ذلك تأمين الهِبات والقروض لإصحاب المشروعات الصغيرة، على مستوى العائلة، أو على مستوى الدائرة الاوسع بقليل، وهناك مسؤولية قومية يجب أن تتحملها البنوك العربية في هذا المجال. تلك المشروعات تمتصُّ جزءاً يسيراً من اليد العاملة. وأثبتت تجارب الدول الاكثر كثافة بعدد السكان – مثال الصين وجنوب شرق آسيا –  أنها استطاعت مكافحة الجنوح الهائل لغزارة تنامي سوق العمل من خلال مثل تطبيق مثل هذه الآجندات.

التجارب المتواضعة في التنمية المحلية الأُفقية في بعض الدول العربية – أو في بعض المدن والقرى على وجه التحديد – ساهمت في خلق مشروعات إنتاجية صغيرة، كان لها الأثر الفارق في وقف النزوح، أو الهجرة. على سبيل المثال: تهيئة بيئة مناسبة لإنشاء مطاعم ومنتجعات سياحية صغيرة جداً في بعض المدن اللبنانية، وإنشاء برك ري زراعية في بعض القرى اللبنانية زادت من الاستثمارات بشكلً واضح، وامتصَّت جزءً لا بأس به من اليد العاملة، وحققت بعض المداخيل الاضافية للعاملين. طبعاً ما حصل لا يكفي إطلاقاً لمواجهت تنامي سوق اليد العاملة العربية – في لبنان على سبيل المثال؛ هناك 34 الف خريج جامعي سنوياً– ولكن تعميم الفكرة يُكبِّرُ حجم الاقتصاد، وتكبير حجم الاقتصاد، علاجٌ ناجع لإمتصاص البطالة، والحد من الفقر والهجرة، لكن لا بُد من الاشارة إلى ضرورة تطوير الثقافة الاستثمارية عند الشباب العرب، بما في ذلك إجراء تعديلات جوهرية على نمطية التعليم، ليتلاءم مع سوق العمل، أو ليؤهِل الشباب على كسب معلوماتٍ تُمكنهم من ابتكار أفكار ومشروعات انتاجية مناسبة.

وبالتوازي؛ لا بد من إنتاج ثقافة ابداعية عربية في مجال الابتكار والحداثة، مُحررة من بعض القيود غير المُجدية، في مجالات التكنولوجيا، أو في الالكترونيات، او في قطاعات الخدمات المتنوعة، إضافةً الى تعميم التصنيع الزراعي، والتصنيع المعدني والكهربائي. ذلك بطبيعة الحال يبدأ بتكبير حجم الوعاء الحاضن لهذه الاستثمارات الصغيرة، من طاقة كهربائية، ومواد أولية، وتخصيصات عقارية مناسبة، وانتاج قوانين مرِنة مُلائمة لإستيعاب هذا المسار الانتاجي. ولا بُد في المقام الأول من زيادة الاستثمار في الابحاث العلمية، وعدم الاتكال دائماً على التقليد.

إن الخصوصية العربية في الانتاج المُتنوع، يمكن ان تُشكِّل قيمة مُضافة للعديد من السِلع. لاسيما السياحية والزراعية، والحرفية، وحتى التقنية. وهناك العديد من التجارُب يمكن ان تُحتذى في هذا المجال.

ان آجندة التنمية العربية لما بعد العام 2015، لا بد لها في المقام الأول من أن تأخُذَ بعين الاعتبار؛ المآسي الانسانية التي يعيشها عدد كبير جداً من الشباب العرب. منهم مَن يعاني من البطالة وضيق سُبل العيش، ومنهم مَن يعاني من الشعور بالدونية الحضارية، فيغامر سعياً إلى الهجرة، اعتقاداً منهم أنهم سيلاقون عالماً مُختلفاً، ومريحاً. ومنهم مَن غلب عليه اليأس من جراء المضايقات السيسيوبوليتيكية التي تفرض عليه ولاآت لم يستسغها، ومنهم يهرب من الفوضى والاضطراب الامني اللذان ينتشران في عدد من الدول العربية. ناهيك عن محاولات الهروب من الاختناق الفردي الذي يُسببهُ التمييز الطبقي، او العرقي، أو الديني، أو السياسي في بعض الدول التي تعيش في حالة من الانفصام القانوني، حيث لايُنفذ القانون وفقاً لما يجب، ولا يوجد تكافوء ومساواة في الفرص امام كافة المواطنيين، مما يُسبِب امتعاضاً، يتطور إلى شعور بالغبنِ، أو بالقهر، من جراء تقسيم فئات الشعب: بين فئة محضية، وفئة محرومة، او مُضطهدة.
ان المسؤولية القومية تفرض،  البدء بمعالجة المُعظلات المطروحة امام المستقبل العربي برمته؛ اليوم قبل الغد، كي لا يفوت الآوان، وحينها لا ينفع الندم.

*مداخلة في مؤتمر ” الآجندة التنموية ما بعد 2015″ الذي اقامته المنظمة العربية للتنمية الادارية التابعة لجامعة الدول العربية في القاهرة، بين 15 و 16 كانون الاول 2015

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان

لماذا تحدث البابا فرنسيس عن “مناخ الحرب” في العالم؟