معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

د. ناصر زيدان

يبدو العالم على شفير تغييرات جوهرية، قد تُطيح بأغلبية الإنجازات التي تحققت بُعَيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، لا سيما منها الاتفاقيات الدولية التي وُلِدت من رحم المآسي الإنسانية التي أنتجتها الأعمال القتالية، والتهديد يطال تهميش القوانين الدولية، والضوابط الانسانية التي هدفت لتخفيف المعاناة البشرية.

ولا يعني ذلك أن هذه الضوابط كانت مُحترمة إلى أبعد الحدود، ولكن الحراك المدني، ونظام المحاسبة الديمقراطية الذي طُبِقَ في معظم الدول، أرسى مفاهيم مقبولة، لا يمكنها تجاهل إرادة المواطنيين، وبالتالي تُلزِم القيادات الرسمية إحترام كرامة الأفراد، والتقيُّد بمعايير حقوق الإنسان.

الفوضى الدولية القائمة حالياً، تُهدِّد بتدمير بعض الإنجازات السابقة، وربما تنسفُ النسق السابق أمام أعيُن المُتفرجين من قادة الرأي، ومن المؤثرين على الساحة الدولية.

لقد بَذَلَ المجتمع الدولي – وإبان فترة الثنائية القطبية– جهوداً جبارة، وأنتج مجموعة كبيرة من المُعاهدات التي تعالج المُشتركات بين أُمم الأرض، أو بين الدول القائمة. ومن أهم هذه المعاهدات: ميثاق الأمم المُتحدة للعام 1945 الذي حرَّم إستخدام القوة إلا لرد العدوان، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948، وإتفاقيات جنيف الأربعة للعام 1949 التي عالجت موضوع إنتهاكات حقوق الإنسان في زمن الحروب والنزاعات، وصولاً إلى إتفاقية العام 1961 للعلاقات الدبلوماسية، وإتفاقية العام 1963 التي تُنظِّم العلاقات القنصلية، وإتفاقية العام 1975 التي تحرِّم إستخدام الأسلحة الفتاكة، لا سيما البيولوجية والكيميائية، إضافةً لعشرات المعاهدات الأُخرى التي ركَّزت على إحترام الخصوصية الآدمية.

والابرز في إنتاجية الماكينة التشريعية الدولية في مجال الحد من الإنتهاكات الجرمية، كان صدور إتفاقية روما للعام 1998 التي أُنشئت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في لاهاي، المُختصَّة بمحاكمة مجرمي الحروب المُتفلتين من المحاكم الوطنية.

والمُهم من التشريعات الدولية أيضاً قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1368 للعام 2001 الذي أعطى مشروعية لإستخدام القوة ضد الأنشطة الإرهابية، والذي صدر في أعقاب الهجومات التي إستهدفت منشآت حيوية أميركية في 11 أيلول/سبتمبر 2001.

تبدو الإخفاقات الدولية في معالجة التفلُّت من الانتظام الأُممي واضحة للعيان، وهناك إستهتار واضح من قبل الدول الكبرى، وبالتالي من قبل مجلس الأمن المُوكل له حفظ الأمن والسلام الدوليين. كأنما الارهاب والأعمال الحربية المُشينة جرائم عندما تطال الدول الكبرى – أو عندما تُصيب مواطني وممتلكات هذه الدول – وليست كذلك عندما تطال جرائم الحرب، والأعمال الإرهابية، دولاً صغيرة، وشعوب وممتلكات ومعالم أثرية في عالم الجنوب، أو العالم الثالث.

السكوت الدولي عن الإنتهاكات الفظيعة التي يتعرَّض لها المدنيين في سوريا والعراق، وكذلك على ما يُصيب المعالم الثقافية والآثار في هذه البلدان وغيرها، على يد الانظمة المُستبدَّة والمنظمات الإرهابية المُتطرفة – مثل داعش وشبيهاتها – يطرح مجموعة كبيرة من التساؤلات. فهل هذا السكوت ناتجٌ عن سياسة تهدف إلى تشويه الحضارة الإسلامية والعربية، وتؤدي لاحقاً إلى تدمير وإذلال دول وشعوب لم تنصاع للإصطفاف الدولي، أو أنها تُشكِّل خطراً على الطموحات الصهيونية؟ أم أن هذا السكوت مُتأتي عن قلة كفاءة المسؤولين في الدول الكبرى، الذين لم يفعلوا شيء لوقف الاساءة التي تتعرض لها البشرية جمعاء، من جراء الويلات التي تُرتكب في بلاد الشام، أمام أعينهم.

المحكمة-الجنائية-الدولية

سبق للنظام الدولي، وللدول الكبرى، أن إستخدمت القوة لوقف الانتهاكات الصارخة التي حصلت في يوغسلافيا السابقة، وفي أفغانستان، واجتاحت جيوش بعض الدول العظمى أقاليم بكاملها، بحجة التدخُل الدولي الإنساني. فالقوات الروسية إجتاحت القوقاز بعد العملية الإرهابية التي حصلت في موسكو العام 1999. والقوات الفرنسية إحتلَّت مالي(التي تخضع لنفوذها) عام 2012، عندما هددت المجموعات المُتطرفة العاصمة باماكو. وكانت القوات الأميركية إجتاحت العراق بكامله في العام 2003، في حربٍ – قالت – أنها وقائية لتخليص العالم من مخزون سلاح نووي وكيميائي (تبين أنه وهمي).

أثبتت لجنة التحقيق التي كلفتها الأمم المتحدة، إستخدام السلاح الكيميائي في سوريا من قبل عناصر تابعة للنظام، وربما من قبل عناصر تابعة للمجموعات الارهابية المتطرفة، وأدى هذا الإستخدام إلى موت مئات الأطفال والعُزَّل. لم يتحرَّك النظام الدولي لمعاقبة المُرتكبين لهذه الجرائم الدولية، وقادتهم. بل استغلَّ المناسبة لتحقيق أرباح سياسية، تخدم “إسرائيل” بالدرجة الأولى، من خلال تدمير المخزون السوري من الأسلحة الكيميائية، من دون تدخُل عسكري.

وفي كل يوم تنقُل وسائل الإعلام إنتهاكات صارخة للقوانين الإنسانية الدولية. ولم يتحرَّك النظام الدولي لإيقافها، أو لمعاقبة المرتكبين. ولا تكفي بعض الضربات الجوية على بعض قواعد ل “داعش”، لرفع الظلم الذي يُصيب السوريين، الذين يعيشون مأساة انسانية قلَّ ما شهد مثلها التاريخ. فالبراميل المُتفجرة تفتك بالمدنيين وبيوتهم، وتدمِّر القرى والمُدن، والممارسات الوحشية ل “داعش” تجاوزت كل الحدود، من قتل وحشي، وتدمير للمعالم التاريخية، وسبي للنساء، وإبادة لجماعات ذات خصوصية دينية أو عرقية. وكل هذه الأعمال جرائم دولية، والسكوت عنها يُعبرُ عن إخفاقات في النظام الدولي قلَّ نظيرها.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان

لماذا تحدث البابا فرنسيس عن “مناخ الحرب” في العالم؟