عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

د. ناصر زيدان

تتأثر المناطق التي يعيش فيها المسلمون الموحدون الدروز في لبنان على شاكلة واسعة بما يجري في سوريا، ذلك أن التعرُّض لاخوانهم في أكثر من منطقة، ترك إنطباعاً بوجود إستهداف لهذه الشريحة، وخطة دؤوبة لتغيير المسار التاريخي لدورهم العربي والإسلامي، ويتشارك في هذه المحاولات مجموعة من الأطراف، في المُقدمة منها “إسرائيل” والنظام في سوريا، وبعض المنظمات الإرهابية المُتطرفة التي تخدم أهداف الطرفين.

كان المسلمون الموحدون، الذين يتعارف على تسميتهم “بالدروز” منذ القِدم قبائل عربية تهوى المغامرات العسكرية، ووفقاً لهذه الخصائص، تبؤوا مراتب مُتقدِّمة في مراحل الفتح الإسلامي، حيثُ كانت هذه القبائل أول من رحب بقدوم هذا الفتح إلى اليمن وشرق الجزيرة وجنوب العراق، وقاتلوا الفُرس في معركة “ذي قار” ومشوا مع الحملات الإسلامية إلى بلاد الشام والعراق، وبرز دور قبائلهم من اللخميين والمناذرة في معارك القادسية واليرموك، وأوكل إليهم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور حماية شمال سوريا والساحل اللبناني من الغزوات البيزنطية والرومية.

إعتنقت هذه القبائل “مسلك التوحيد” الذي أطلقه الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور (996- 1021م) والذي يُطلق عليه إسم “الحاكم بأمر الله” بواسطة رسائل الحكمة، التي نقلها من مصر الإمام حمزة بن علي، وبعضها نقلها الداعية “نشتكين الدرزي” الذي يتهمه الموحدون بتحريف بعض هذه الرسائل، والدعوة التوحيدية هي بالأساس حركة تصحيحية من ضمن السياق الإسلامي في حينها، وفي جوهرها إعتراض على بعض الشكليات، وتركيز على مرجعية العقل في إختيار الموقف، من دون إعطاء الاولوية لمباهج ومفاتن الدنيا، حيث مرتيبة النفس والكلمة أسمى من كلِ شيء، عملا بصوفيةٍ إسلامية راقية، وبزهدٍ عن مباهِج الحياة، أوصى بها الرسول الكريم.

تعرَّض الموحدون الدروز لحملاتٍ سياسية وعسكرية مُتعدِدة عبر تاريخهم الطويل، كما تناولتهم التشويهات الفكرية والاجتهادية، ومنها من بعض المُتطرفين كإبن تيمية، وغالباً كانت الاتهامات تستند إلى موقفهم من الصراع السياسي الذي كان قائماً بين الفاطميين والعباسيين. الثابت أن الموحدين الدروز؛ مسلمون عرب، دورهم السياسي والعسكري عبر التاريخ لم يخرُج عن هذا السياق، ونزاع أميرهم فخر الدين الثاني مع السلطنة العثمانية في القرن السادس عشر، لم يَكُن على خلفية دينية، بل لأسباب تتعلق بالقساوة التي مارسها الأتراك في حكمهم المنطقة العربية، ومنها جبال لبنان، وفخر الدين هو الذي بنى الجوامع في القرن السادس عشر، ومنها جامع دير القمر الذي ما زال شاهداً على إنجازاته حتى اليوم. والأُسر الاقطاعية الدرزية كانت على الدوام تعتمد على التقاليد العربية والاسلامية، لاسيما التنوخيون في عبيه – حيث كان زعيمهم السيد عبدالله خطيباً في الجامع الاموي بدمشق، والجنبلاطيون الذين كان لهم جامع وسط المختارة، هدمه الامير بشير الشهابي عندما إعتقل والي عكا عبدالله باشا زعيمهم الشيخ بشير جنبلاط عام 1823. أما سمةُ الانفتاح والتعايُش فقد إشتهر فيها الموحدون، وتجربة إحتضانهم وتعاونهم مع المسيحيين في جبل لبنان خيرُ دليلٍ على ذلك.

File picture shows members of the Druze community walking next to the border fence between Syria and the Israeli-occupied Golan Heights

تبدو الأحداث القاسية التي تجري في سوريا اليوم، محطة بارزة في تاريخ المعروفيين الدروز، ذلك أن محاولات إغراقهم في آتون اللهيب المُشتعِل؛ قائمة على قدمٍ وساق. فالنظام يحتاجهم في الدفاع عنه تحت شعار: أنه يحمي الأقليات، والمُعارضة المُعتدلة تشكو من انغماس بعض الأفراد الدروز في صفوف جيش النظام ضدها، بينما المُنظمات المُتطرِفة – خصوصاً “داعش” التي تُنسق مع النظام – تستعدي كل الاقليات، ومنهم الدروز، وهؤلاء المتطرفون لا يثقون بأي من المكونات التي لا تنضوي تحت سلطانها، بما في ذلك شرائح العرب السُّنة المُعارضين للمسار التكفيري، وهم الاكثر عدداً.

الجديد منذ بداية حزيران 2015 كان المجزرة التي وقعت في قرية قلب لوزة في ريف إدلب، وذهب ضحيتها 23 مواطناً سورياً من الدروز، وهؤلاء أبرياء وعُزَّل من السلاح، غدرت بهم عصابة من المُتهورين، تنكرت منهم منظمتهم المُتشددة “النصرة”.

كان الحدث مناسبة للإستغلال من قبل النظام في سوريا ومُناصريه في لبنان. كما دخلت “إسرائيل” بقوة على خط التوتير والتآمر، في احياءٍ لمشروعٍ تفتيتيٍ قديم – جديد، يستهدف تخويف الدروز من مواطنيهم العرب، وتُبرِزهم في صورةٍ قاسية وغير انسانية، في آنٍ واحد. وقد ظهر الموقف “الاسرائيلي” على حقيقته الخبيثة، في تدبير واستغلال حادثة الاعتداء على سيارة الاسعاف في بلدة مجدل شمس الجولانية في 23/6/2015، علماً أن بعض المعلومات تُشير الى ان الجريح السوري الذي قُتل في الحادث، قضت عليه المخابرات الإسرائيلية قبل وصول سيارة الاسعاف التي كانت تُقلُهُ مع جريح آخر إلى مكان الكمين الذي حضُّره عملاء للجيش “الاسرائيلي” وقد استنكرت فعلتهم المشبوهة كل الفعاليات السياسية والدينية العروبية الدرزية في الجليل والجولان.

تقاطُع غريب بدى للمراقبين بين أهداف المخابرات السورية الفتنوية، وبين الطموحات “الاسرائيلية” التفتيتية. والاغرب من كل شيء هو أن كل المسؤولين “الاسرائيليين” خرجوا على الشاشات يتحدثون عن الواقعة التي حصلت في مجدل شمس بلُغةٍ انسانية، بينما اتهموا بعض الدروز بالتوحُش، وهذا غير صحيح، فالحادث كان مُدبَّراً من القادة المُجرمين في “إسرائيل”، على غرار الحادث المأساوي الذي دبرته المخابرات السورية في السويداء قبل ذلك بايام؛ حيث قصفت أحياء المدينة بمدافع الهاون، واتهمت العرب البدو بالقيام بالعمل، وقتلت ثلاثة من ابراياء البدو، مُتهمةً الدروز بقتلهم، بهدف مكشوف؛ هو إيقاع الفتنة بين الدروز وجيرانهم في حوران ودرعا، لكن عقلاء جبل العرب فضحوا المُخطط وعزُّوا بالشهداء من البدو العرب، وتجاوز الفريقين الفاجعة.

الموحدون الدروز لا يفقهون الدخول في مؤمرات خبيثة، وهم ملتصقون بالمدى العربي والاسلامي على الدوام، همَّهم الاول وربما الاخير الدفاع عن وجودهم، وعن كرامتهم، وهم لا يُغادرون ارضهم مهما اشتدَّت عليهم المعاصي؛ ذلك ما حصل إبان المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين عام 1948، والامر ذاته تكرر مع العدوان “الاسرائيلي” واحتلال الجولان عام 1973. وهو ايضاً ما كان عليه الحال مع دروز لبنان بُعيد الاجتياح “الاسرائيلي” عام 1982، وذات الامر حصل مع الاقلية الصغيرة من الدروز في ريف ادلب، الذين رفضوا ترك ارضهم، وقد تحولوا الى مُسعفين، ومُقدمي مساعدات للمنكوبين من السوريين الآخرين، بصرف النظر عن انتماء هؤلاء المنكوبين السياسي.

تقاطع المصالح بين “اسرائيل” والنظام السوري ومَن ورائه، يضع الموحدين الدروز بين مطرقة هؤلاء وسندان أُولئِك. وبالتأكيد فهم في وضعٍ لا يُحسدون عليه، لأن وسيلة العيش لديهم تحتاج الى العدو، والى الحاكم الجائر في آن. فليس للدروز حلقة اقتصادية خاصة تكفي لسدِّ حاجاتهم في المناطق التي يتواجدون فيها، لا سيما في محافظة السويداء السورية، التي هي جزء من التراب الوطني السوري، وسكانها العرب جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للدولة الواحدة.

الاتصالات السياسية الواسعة التي قام بها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط مع الدول المُجاورة لسوريا، ومع قوى المُعارضة والعشائر العربية، ومع الدول الفاعلة في المنطقة، اسفرت عن نتائج واضحة لناحية تهدئة الغليان الذي عاشته المناطق التي يقطنها العرب الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين والاردن، وقد نجحت هذا الحركة في فضح الاهداف التفتيتية والفتنوية لكل من “اسرائيل” والنظام في سوريا. والاحتضان الذي لاقته مبادرة جنبلاط من قبل القوى السياسية المعارضة في سوريا، ومن قبل الشريحة الاوسع من مواطني جبل العرب، اجهضت جزء يسير من المؤامرة التي يتعرَّض لها الدروز، إلاَّ ان الطريق يبدو ما زال طويلاً، وامام قوى الشر مزيداً من الفُرص لإشعال الحريق، لا سيما بعد ان فضحت صحيفة ديلي صباح التركية الاتفاق السري بين النظام السوري وداعش، ومن ضمن مندرجات هذا الاتفاق؛ ان يعمل النظام على تسليم السويداء لداعش للتنكيل بأهلها. ولكن رغم كل ذلك؛ فإن مساحة التفاؤل بتجاوز الازمة تبقى واسعة، خصوصاً مع وجود ارادة وطنية وعربية وإسلامية جامعة لمواجة المخاطر القادمة.

*استاذ في العلوم السياسية والقانون الدولي العام

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان

لماذا تحدث البابا فرنسيس عن “مناخ الحرب” في العالم؟