تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

د. ناصر زيدان

تبدَّلت صورة العلاقات الدولية جذرياً منذ مطلع الألفية، وإختلفت عما كانت عليه في القرن الماضي، وحملت رياح التواصل المُتفلِّتة؛ برودةٌ وسخونة في آنٍ واحد، تجاوزت سياق العلاقات الدبلوماسية – أو مبدأ السيادة – الذي كرسته معاهدة 1815، كما تخطت المفاهيم العصرية – سوسيولجيا العلاقات الدولية- على ما كان يُطلِق عليها ريمون آرون.

التواصل الإنساني ركيزة في إطار العلاقات الدولية، وإلاَّ كيف يمكن تفسير مشهد رئيس الوزراء البريطاني في خيمة لاجئين سوريين في البقاع اللبناني، يحطُ فجأة، وينتقل إلى مخيمٍ آخر في الأردن، وغيره كثيرين من المسؤولين يقومون بمثل هذه المُهمة… أنها أشكالٌ مختلفة – مُكملة، أو مُنقطعة – عن الأُطر التي أرستها المقاربات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت مجموعة من القواعد، لا يمكن التخفيف من تأثيراتها، بل يجب تعزيز إحترامها، أكثر فأكثر، عنيت الاتفاقيات التي وحَّدت معايير حقوق الإنسان في العالم، وأرست مفاهيم متطورة للقانون الدولي الإنساني، لا سيما منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948، وإتفاقيات جنيف الأربعة للعام 1949، وعهدي الحقوق المدنية – السياسية، والإقتصادية – الإجتماعية التي أُقرَّت في العام 1966.

إن ترابط مصالح الشعوب، وزيادة التبادلات الإقتصادية والثقافية، فرضت أنماطاً جديدة على العلاقات الدولية، ولم تعُد الأدوار التي تُنتِج هذه العلاقات مُقتصرة على الإمبراطوريات أو الدول المُستقلَّة ذات السيادة، بل أصبح جزء أساسياً من هذه العلاقات تقوم به منظمات دولية أو وطنية، تعمل في المجالات الإنسانية، أو الانقاذية، أو الثقافية، أو الدينية، أو المالية، ومنها على سبيل المثال: منظمات الأمم المتحدة المُتخصِصة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجلس الكنائس العالمي، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، إضافةً إلى الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر.

رئيس الوزراء البريطاني يزور لاجئين سوريين

أما الشركات الكبرى العابرة للقارات – التي تتشارك في أعمالها مجموعات واسعة من المواطنين، يحملون جنسيات بلدانٍ متنوعة، ومتعدِّدة – فهي أيضاً لاعب أساسي في إنتاج علاقات دولية بين الشعوب، أو بين الدول، تُساعدها في مهمتها الإنتاجية، أو الربحية، منظمة التجارة العالمية التي نسجت نوعاً جديداً من العلاقات الدولية، يمكن تسميتها: بالعلاقات الدولية التجارية بين الأغنياء.

ومع تطور مفهوم العلاقات الدولية، وتجاوزها لرؤية إيمانويل كانت التي كانت تستند إلى مقاربة “الأمن الجماعي” أصبح الحوار الإنساني ضرورة موضوعية لإستكمال معالم الصورة الجديدة، أو المشهد الجديد، ذلك أن عصرنة العلاقات الدولية تحتاج إلى عصرنة الحوار الإنساني، فالترابط بين مصالح الشعوب ومأساة هذه الشعوب، قائمٌ، ولا يمكن تجاهُله، أو القفز فوقه. والعصرية ليست بالضرورة؛ إستقراراً ورخاءً وأمناً وبحبوحة، بل أن وجهها القاسي يكاد يُغطي على وجهها الناعم؛ وبالتالي فهي تُنتج الويلات والحروب والإرهاب، والمُعضلات الكبرى. وهذه المُعضلات، أصبحت بحاجة لرؤية جديدة تُتِيح التعامل معها بواقعية.
منذ أكثر من خمسة عشر سنة، سلَّط تقرير التنمية البشرية للعام 1999 الضوء على مجموعة من التحديات الجديدة التي تواجه البشرية، وجميعها تحتاج لمقاربات إنسانية جديد، ولتعاملات دولية، ورؤيا موحَّدة من النوع الخاص الذي يختلف عن تعاملات التحديات السابقة. وتحت عنوان: “عولمة ذات بُعد إنساني” حدد التقرير سبعة مخاطر تُهدِد الأمن الانساني.

وهذه المخاطر هي: عدم الإستقرار المالي، وغياب الأمن الوظيفي، وغياب الأمن الصحي، وغياب الأمن الثقافي، وغياب الأمن الشخصي، وغياب الأمن البيئي، وغياب الأمن السياسي والمجتمعي.

كل تلك المُعضلات تحتاج لحوار ذات طابع إنساني، يؤسس لرؤية دولية متقاربة بالحد الأدنى لمعالجة هذه التحديات، حيث لا يمكن إيجاد معالجات موحدة لمجموعة هذه المخاطر في كل الدول المستقلة، أو عند كل الشعوب، ذلك لأن الاختلافات الجوهرية بين التحديات التي تواجه الدول، أو الشعوب ما زالت كبيرة، وما هو ضروري عند مجتمعات متطورة من حيث الحاجات الإقتصادية أو الأمنية أو البيئية، يُعتبرُ نوعاً من الرفاه غير الضروري عند المجتمعات الأقل تطوراً، وتحديات هؤلاء السياسية والأمنية والمعيشية، أكثر صعوبة.

وهذا الأمر يفرض البدء الجدي بتقليص الهوة الواسعة ما بين الفقراء والأغنياء في العالم، علماً أن الفقر ليس في تدني مستوى الثروة، وعدم توفر وسائل العيش فقط، بل جزء كبير منه ناتج عن الاختلال القانوني الكبير في بعض الدول، وفي عدم وجود بُنية تحتية تشريعية، وإجرائية صالحة لوضع معالجة علمية للتحديات المعيشية العصرية، كما لجزء من الاختلال الطبقي بين فئات المجتمع. وجزء آخر ناتج عن الفوضى الهدامة في بعض الدول والتي تُساهم في تعميم الفقر، لأنها تحرُم الشعوب من إستغلال ثرواتها، أو أنها لا تسمح بإستغلال هذه الثروات وفقاً لأجندة وطنية عادلة ومناسبة.

thumb.php

لم يعُد بمقدور مجلس الأمن الدولي بمفرده معالجات معضلات تتعلق بالأمن الجماعي، وهو في بعض الأحيان لا يستطيع إخماد المخاطر الكبرى التي تُهدد السلام العالمي، ومنها مخاطر إقليمية لها أبعاد كونية، كأزمة النزوح والتهجير الناتج عن العدوان، أو عن إستخدام القوة المُفرطة ضد التحركات السلمية للشعوب، مثال على ذلك ما يجري للشعب الفلسطيني على يد المحتل الإسرائيلي، وما يجري للشعب السوري على يد القوات النظامية وميليشيات المنظمات الارهابية المُتطرِفة، وفي طليعتها “داعش”.

بطبيعة الحال، فإن مجلس الأمن الدولي يحتاج إلى معاونة – أُفقية وعامودية – لمعالجة إضطراب الأمن الإنساني الناتج عن الكوارث الطبيعية، أو عن كوارث الإختلال البيئي، أو عن الكوارث الإقتصادية المُتأتية من تفاعلات الديون الخارجية للدول الفقيرة.

إن الحوار الدولي الإنساني يعتبر مدماكاً أساسياً في بناء صرح الثقة المفقودة بين المجموعات التي يتكوَّن منها هذا العالم، والحوار يُشبِه الجيش، ولكنه لا يتشكَّل من جنود وأسلحة، بل من إرادات وطاقات فكرية وإنسانية وعلمية وثقافية، مهمتها تحقيق الأمن الوقائقي الذي يحتلُّ مرتبةً مُتقدمة في مسيرة الإستقرار للبشرية، ويحفظ الأمن الإنساني.

والأمن الإنساني يحتاج إلى تسامح ثقافي وديني، وإلى إخماد نيران التمايُز، أو التمييز إلى مهدها الأدنى، لا سيما التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو وفقاً للمستوى الإجتماعي أو المادي.

الأمن الإنساني أصبح ضرورة عصرية لضبط الانفلات العسكري، ووقف الحروب المُدمِّرة بين المجموعات، أو بين الدول. والمجموعات المنظَّمة التي تعمل للحوار تُشكِّل أداة ضغط مُتقدِّمة في مواجهة جنوح بعض الدول التي تشعُرُ بفائض القوة.

إن العلاقات الدولية الحديثة لا تصنعها الدول فقط، بل هي نتاج لثورة رقمية هائلة، والثورة الرقمية عزَّزت الحوار الإنساني، وكانت بمثابة عصيان مدني إلكتروني، تجاوز المحددات التقليدية للحوار. أما العلاقات الدولية الحديثة، فلم تعُد علاقات بين دول فقط، بل أصبحت علاقات بين شركات متعددة الجنسيات، وبين أحزاب لها سمات عقائدية مُشتركة، وبين مجموعات مدنية ودينية متنوعة. وجزء من هذه العلاقات يُنتجُه التواصل اللامركزي المباشر بين الأفراد والمجموعات.

وتطور مفاهيم العلاقات الدولية، لا يُلغي أبداً الحاجة إلى تدخلات دولية ردعية، من خلال إستخدام القوة العسكرية لضبط الانحرافات الخطيرة التي تُهدِد السلام العالمي. ولكن الحاجة تبدو مُلحَّة لتغيير نمطية إتخاذ القرار لإستخدام القوة الدولية، لأن الاعتبارات التي تتحكم بآلية إتخاذ القرار للتدخُل العسكري الإنساني، تحكُمُهُ مصالح الدول الكبرى، أكثر مما تحكمهُ دوافع الحفاظ على أرواح الناس وحفظ ممتلكاتهم. وإستخدام حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن غالباً كان لتحقيق هذه المصالح، وبالتالي فقد حمى هذا الفيتو المُعتدين.

57445051

57445051

والأمن الإنساني بالمفهوم العصري يحتاج أيضاً وأيضاً إلى تعزيز العدالة الجنائية الدولية، وربما يحتاج هذا التعزيز إلى إعادة النظر بشروط إحالة المُجرمين الدوليين أمام محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي تعديل آلية نظام روما، بحيث تصبح المحكمة هي صاحبة الصلاحية في ملاحقة المُرتكبين، من دون أن يكون لمجلس الأمن صلاحية إيقاف الملاحقة، وكذلك تأمين تعاون دولي أكثر إلزاماً مع المحكمة، لسَوق الجُناة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمُرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.

الحوار الدولي الإنساني بحاجة لتفعيل أكثر فأكثر، وهو أحد أهم الطرُق لتحقيق الأمن الإنساني الدولي. فالمشكلات الإنسانية الكبرى لا يمكن حلها دائماً عن طريق القوة.

عندما تُعلن الأمم المتحدة: إن أكثر من نصف مليون مهاجر غير شرعي عبروا البحر المتوسط في العام 2015، ومنهم كثرين قضوا غرقاً، بطبيعة الحال؛ فإن الموضوع يحتاج إلى وقفة دولية شاملة لمعالجة هذا الاختلال الرهيب في المنظومة الدولية التي تسمح بوصول المآسي الإنسانية إلى هذا المستوى.

*مداخلة في مؤتمر الحوار الدولي الإنساني- جنيف 24/10/2015

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان

لماذا تحدث البابا فرنسيس عن “مناخ الحرب” في العالم؟