الاتفاق النووي الايراني ومفترق الحرب والسلم

فوزي أبوذياب

توج الاتفاق النووي الايراني بين مجموعة الدول الست (الدول دائمة العضوية في مجلس الامن + ألمانيا)، نقلة نوعية في طريقة تعامل الدول الكبرى مع طموحات الدول النامية الساعية لتطوير قدراتها المعرفية والتقنية، وحققت الدبلوماسية الجديدة (الدبلوماسية الناعمة) نجاحاً يمكن اعتماده في حل النزاعات المماثلة بين الدول، فبعد تفكيك السلاح الكيميائي السوري، بعد التهويل باستخدام القوة ضدها، وقعت ايران اتفاقاّ أولياً مع الدول الكبرى، يمهد لاخضاع عملية التخصيب النووية للرقابة الدولية، وعلى الرغم من أن سياق المسار التفاوضي التجاذبي الطويل الذي خاضته مجموعة (5+1) مع إيران، تخلله تصعيد وتهويل عسكري وسياسي، وحروب صغرى كـ (العدوان الاسرائيلي في تموز 2006 على لبنان، وآخر على غزة 2008-2009)، وعقوبات دولية قاسية على ايران وضعتها على حافة الافلاس وكادت أن تفجر أزمة داخلية، ظهرت مؤشراتها في حدة القمع التي مارستها ميليشيا “الباسيج” ضد ما عرف بالثورة الحضراء الإصلاحية التي انطلقت عام 2009 على خلفية تزوير الانتخابات الرئاسية التي وفرت للرئيس أحمدي نجاد ولاية حكم جديدة، اسهمت في خلط الاوراق الداخلية في ايران بفعل سياسة (الاستعلاء والاستقواء والمكابرة) التي مارسها في الداخل والخارج، أدت الى فوز الرئيس حسن روحاني (المعتدل والمقرب من المعارضة)، منذ الجولة الاولى مفاجأ كل التوقعات.
مسارات التفاوض المعقدة
وكانت ايران قد بدأت ببرنامج تخصيب سري ولم تعترف به سوى عام ٢٠٠٢ بعد ان حثها المجتمع الدولي على وقف برنامجها للتخصيب. وسمحت ايران عام ٢٠٠٣ بدخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ورغم قرارات مجلس الامن الدولي والعقوبات تحت الفصل السابع من شرعة الامم المتحدة استمرت ايران بتخصيب اليورانيوم. واستمرت تؤكد ان برنامجها يتفق مع معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية التي صادقت عليه في عام ١٩٧٠ والتي تسمح بتخصيب اليورانيوم لاغراض سلمية تحت اشراف الوكالة. وكانت ايران قد وافقت على هذا الاشراف ضن حدود معينة. وقام المفتشون بزيارات منتظمة منذ عشر سنوات لموقع “نتانز”، اول محطة للتخصيب و”فوردو”.
عام 2011 اعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريرها حول البرنامج النووي الايراني، عن مخاوف جدية بشأن ابعاد عسكرية محتملة للبرنامج النووي الايراني دون استخلاص بشكل مبرم طبيعته العسكرية.
ويعتبر مجلس الأمن الدولي بأنه طالما لم تثبت النوايا السلمية لايران، يجب ان تتوقف انشطتها النووية. وتطالب المجموعة تعزيز نظام التفتيش. ويرغب المفتشون العودة الى مواقع بارشين للتاكد من انها لا تحتوي على مركز تجارب لصناعة قنبلة ذرية والحصول ايضا على امكانية دخول وحدة الماء الثقيل في مركز “اراك”.
وتقول ايران ان تخصيب اليورانيوم الى ٣,٥ بالمئة هو من اجل صناعة الطاقة الكهربائية في محطة بوشهر اما اليورانيوم المخصب الى درجة ٢٠ بالمئة ( وهو معدل يقترب من العتبة العسكرية) فهو لمفاعل البحوث في طهران، ويتم في ناتنز وفوردو وقد بني الاخير في عمق جبل قرب مدينة قم ولم يعترف بوجوده سوى عام ٢٠٠٩.
ووفقا لتقرير الوكالة فان مخزون اليورانيوم المخصب الى درجة ٢٠ بالمئة وصل الى ١٨٦،٣ كليوجراماً اواخر شهر اب 2013 الماضي مع العلم ان انتاج السلاح النووي يحتاج الى ٢٤٠ كيلوجراماً. ولدى ايران اكثر من ١٩٠٠٠ جهازاً للطرد المركزي ومنهم ١٠٠٠ من الجيل الجديد ذات القدرات الاقوى بكثير من السابق. إحدى علامات الاستفهام التي طرحتها الوكالة واثارت الشك تجاه نوايا ايران العسكرية، تتمحور حول مركز بارشين وهو قاعدة عسكرية تقع على مسافة ٣٠ كلم جنوبي شرقي طهران. وقد رفضت السلطات الايرانية افتراضات الوكالة، التي بموجبها تم اجراء اختبارات لتطوير راس حربي لتسليح صاروخ، بفضل استخدام صور اقمار صناعية واجهزة الاستخبارات.
وتعلم الوكالة ان ايران شيّدت في المركز عام ٢٠٠٠ وعاء لاحتواء التجارب الهيدروديناميكية وهي مؤشرات قوية عن انشطة غير مشروعة. ولم يتم السماح لمراقبين الوكالة منذ عام ٢٠٠٥ بزيارة الموقع.
اما مصدر القلق الاخر فمبعثه مفاعل الابحاث في الماء الثقيل في “اراك” والذي بامكانه انتاج ٩ كليوجراماً من البلوتونيوم سنويا، وهو يدخل في صنع اسلحة نووية. وكانت ايران قد اعلنت ان بدء عمله سيتم عام ٢٠١٤ لكنه تأجل الى اجل غير مسمى.
عرضت المجموعة خلال اجتماع بغداد في ايار ٢٠١٢ على ايران وقف التخصيب الى درجة ٢٠ بالمئة ونقل المخزون الموجود الى الخارج واغلاق مركز التخصيب في “فوردو” والقبول بتوسيع مهمة مراقبة المفتشين التابعين للوكالة وتقديم ضمانات عن الاهداف المدنية للبرنامج النووي.
وفي المقابل اقترحت المجموعة السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة ٣.٥ و ٥ بالمئة لضمان تسليم مفاعل طهران النظائر الطبية والمساعدات التقنية لتأمين منشاتها الذرية المدنية وتوفير قطع غيار لطائراتها المدنية. ولم ترد ايران على هذه المقترحات في حينه.
وخلال المفاوضات الأخيرة في شباط ٢٠١٣ عدّلت المجموعة مقترحاتها فلم يعد مفروضاً اغلاق مركز “فوردو” ولكن طلب وضع حد للتخصيب فيه الى عتبة ٢٠ بالمئة. وسمح لايران بالاحتفاظ بكمية من مخزونها المخصب الى عتبة ٢٠ في المئة لسد حاجات مفاعل الابحاث في طهران، وتم اقتراح رفع العقوبات المفروضة على المنتجات البتروكيمائية وعلى المعادن الثمينة. وخلال المحادثات التي تلتها في نيسان ٢٠١٣ اقترحت ايران خريطة طريق تستدعي تحولاً في العقوبات من دون تقديم ضمانات لوضع حد للتخصيب الى عتبة الـ ٢٠ بالمئة.
الاتفاق المرحلي
الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين مجموعة (5+1) وإيران فجر يوم الأحد (24 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري) في جنيف حول البرنامج النووي، نص على وقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم فوق نسبة 5% مقابل تخفيف محدود للعقوبات المفروضة عليها. إضافة الى السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية العودة الى إيران، وزيارة المواقع التي تريد دون إنذار مسبق، فالقول بوقف عمليات تخصيب اليورانيوم فوق نسبة 5% يعني استمرار تخصيب اليورانيوم إلى مستوى ال 5%، فقط لا عشرين بالمئة كما كانت قد وافقت المجموعة الدولية سابقاً، وهذا ما اعتبرته ايران انتصاراً واعترافاً بحقها في التخصيب.
إيران تقول أنها دعمت هذا المكسب بمكسب آخر يتعلق بعدم التعرض لمخزونها من اليورانيوم المخصب عند مستوى 20%. وتعتبر أن هذا المخزون سيكون ورقة مساومة قوية، بعد انقضاء مدة الستة أشهر الاختبارية والعودة مجدداً إلى مائدة المفاوضات، فيما كان المفاوض السابق رئيس مجلس الشورى الايراني الدكتور علي لاريجاني، قد قال عشية العودة الى المفاوضات، أن “ايران تمتلك مخزوناً فائضاً من التخصيب على مستوى 20%، لا تحتاجه لا بل فهو سيكون مكلفاً عليها، وهي مستعدة لعرضه خلال المباحثات، وهذا العرض مرتبط في عملية بناء الثقة”، ما يعني أيضاً أن هذا المكسب الذي تعتبره إيران انتصارا لا يعدو كونه ورقة إعلامية للإستهلاك الداخلي، أما المكسب الثالث المتمثل بتخفيف العقوبات المفروضة عليها بما قيمته سبعة مليارات دولار مشروطة في شكل تبادل تجاري، من أصل مئة مليار دولار أموال مجمدة في الأسواق العالمية، لا تعدو كونها “خطوة أولى مهمة ” قال الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه يمكن التراجع عنها فيما لم تلتزم إيران بالاتفاق، أما جون كيري وزير الخارجية الأمريكي فقد قال أن “الاتفاق سيجعل من الصعب على إيران الاندفاع نحو صنع سلاح نووي، خصوصاً وقف التخصيب إلى ما فوق ال 5%، ووقف التطوير في مفاعل “آراك” للأبحاث الطبية الذي يعمل بالماء الثقيل والذي ينظر إليه الغرب على أنه قادر على إنتاج قنبلة نووية”.
انعكاسات الاتفاق على الاقليم
بعيدا عن حسابات الربح والخسارة ، لقد ترك الاتفاق اصداء قوية إقليمياً ودولياً، وعلى الأخص بالنسبة لكل من إبران و”إسرائيل” ودول المنطقة، فإذا كان الإيرانيون قد استقبلوا هذا الاتفاق بترحيب حذر، وبتضخيم إعلامي سرعان ما بدأ يخفت، وإذا كانت دول الخليج العربي قد تلقفت الاتفاق بترحيب حذر وبترقب حسن النوايا، فإن رد فعل “إسرائيل” لا يبدو منفعلاً بقوة الانفعال الاعلامي، ما يعني أنها لن تقوم بضرب المفاعل الإيرانية ، انما ستشارك الولايات المتحدة الاميركية في وضع النقاط التفصيلية للاتفاق الاخير إذا التزمت إيران بتعهداتها وفق الاتفاق التمهيدي، مع ابقاء جميع الخيارات على الطاولة، وبانتظار انتهاء الأشهر الستة، يمكن القول ان الاتفاق خرج بمعادلة “التنازلات المتبادلة”، أو “الحل الوسط”، وفق نظريات حل النزاع، لا “الربح التاريخي” كما وصفته وسائل الاعلام المؤيدة لإيران.
مصادر دبلوماسية عربية متابعة لتطورات الملف النووي رأت أن الاتفاق بتفاصيله “المعلومة” شكل خطوة جيدة يمكن البناء عليها، إلا أن ما هو غير معلن من الاتفاق، والذي يقلق المنطقة العربية بفعل الطموحات الايرانية التي أظهرتها “الثورة الاسلامية”، “التلازم بين القوة المركزية والتمدد الإقليمي”، والذي بدأ تحت شعار “تصدير الثورة”، هذا القلق تبرز معالمه وفق المصادر، في مسألتين أساسيتين لا ترتبطان بالاتفاق النووي، “القوة الصاروخية الايرانية التي تهدد أمن الخليج العربي”، والتدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة من “خلال الأجهزة الموالية لها والتي تأخذ منحاً مذهبياً يهدد استقرار المنطقة، وقد برزت نتائج هذا التدخل حروبا وأزمات سياسية في اليمن والعراق والبحرين ولبنان واليوم في سوريا، بهدف إخضاع هذه الدول لسيطرتها ونفوذها”.
وكشفت المصادر أن القراءة الأولية للإتفاق الإيراني مع الغرب المعلوم منه، وغير المعلوم (أي المباحثات السرية الاميركية – الايرانية في سلطنة عمان)، أفضت إلى احتمالين تتبين نتائجهما في خلال الأشهر الستة القادمة:
الإحتمال الأول: أن تفصل إيران ملفها النووي عن طموحاتها الإقليمية، فتلتزم إيران بمقتضيات الاتفاق مع الدول (5+1) حول وقف التخصيب النووي بنسبة 5%، وتعزز علاقتها بالغرب وتحصن إقتصادها الداخلي، وسط منطقة مشتعلة، تغذي فيها مصالح حلفائها بشكل غير مباشر، وتترك لهم تقدير الأوضاع في كل منطقة على حدا وفق طبيعة الأمور، وبالتالي لا تتخلى عن أذرعها المرتبطة بالحرس الثوري، وتترك الامور رهن التطورات، وهذا ما يجري في سوريا، ما يعني بقاء الساحة العربية مشتعلة، تغذيها الصراعات الداخلية المشروعة وغير المشروعة، والتي خلقتها (متطلبات تصدير الثورة)، ما يستدعي بالمقابل تشكيل تكتل مواجه من القوى المتضررة وحلفائها في الاقليم (السعودية ودول الخليج العربي)، كما هو الحال في سوريا، التي باتت جزء من صراع إقليمي (إيراني – سعودي – تركي – اسرائيلي)، وهذا يرضي إسرائيل.
الإحتمال الثاني: أن يكون الإتفاق غير المعلن يتضمن صفقة كبرى مع الغرب، يعطي لإيران نفوذاً غير معلن على بعض المناطق (اليمن والعراق ولبنان والبحرين) المرحلي مقابل التزامها بالتخصيب السلمي، وتعاون في سوريا وتنسيق أمني في مكافحة الارهاب مع الولايات المتحدة في افغانستان، ما يفقدها زخم الشعارات الجاذبة التي رفعتها (المقاومة والممانعة)، واختبار هذا الاتفاق يتجلى في مدى قدرة إيران تليين مفاعيل قوتها التأثيرية بإسم (مقاومة الاستكبار العالمي) لصالح التعاون مع الشيطان الأكبر، وبالتالي عودتها الى احضان الشرعية الدولية وفق شروط الغرب، وهذا ما يزعج إسرائيل التي تقلق من تنامي نفوذ إيران على حسابها في ظل التحولات المصرية، إحتمال نجاح هذه الصفقة (الروسية – الأميركية) قد تتضح معالمها في حضور إيران المؤثر في مؤتمر (جنيف 2) حول سوريا، وتخليها عن بشار الأسد (الذي تحمله الامم المتحدة مسؤولية جرائم الحرب) وبالتالي سحب مقاتليها ومقاتلي حلفائها من سوريا.
الأشهر القادمة قد تحمل وفق المصادر الدبلوماسية العربية مفاجئات وتحولات كبرى، تكشف حقيقة الأهداف الإيرانية، وتبقي المنطقة على خط الزلازل المشتعلة، ورهن الصفقات بفعل غياب العنصر العربي…
فوزي ابوذياب

اقرأ أيضاً بقلم فوزي أبوذياب

انتخاب رئيس الجمهورية مدخل لاي عملية اصلاحية

لبنان بين تحديات الداخل وتحولات الخارج

غياب “غريس” و”غاليانو” خسارة أخلاقية وفكرية

العالم العربي بين حربين دوليتين على الإرهاب

غزة تحت العدوان مجددا

هذا ما قاله راشد الغنوشي في “إخوان” مصر

جنيف 2 – التسوية المفقودة !

المعارضات السورية وتحدي (جنيف 2)

لبنان بين سجال نصرالله-الحريري وجنيف 2

هل بات مؤتمر جنيف 2 المدخل الوحيد للحل؟

الحوار الإيراني مع الغرب بين تصعيد المرشد وانفتاح روحاني وتحدي الوقت

الضربة العسكرية المتوقعة على سوريا وتداعياتها

حراك دولي ناشط لمعاقبة النظام السوري على مجازر الكيماوي

تحول جذري في مسار الازمة السوري

ماذا بعد رسائل الليل الصاروخية… غير المنضبطة؟

تونس على حافة الهاوية… مجدداً!!

هل ينجح الجيش الحر في تعديل موازين القوى الاستراتيجية؟

هل أطيح بظاهرة الأسير أم أسس لظواهر مماثلة؟

لبنان أمام أزمة مفتوحة

هل دخل لبنان في جبهة الصراع الإقليمية؟