لبنان.. عندما تُفلسف بعض القوى سياسة التعطيل!

رامي الريس (مجلة الخليج)

لطالما كان لبنان بمثابة العلامة الفارقة في المعنى الإيجابي والسلبي للمصطلح. فهو شكّل نموذجاً هاماً من التعدديّة والتنوّع من جهة، وعكس المصاعب والاشكاليّات التي غالباً ما تعتري إدارة هذا التنوّع والتعدديّة، من جهة أخرى. وما فشل الطبقة السياسيّة في الحقبات المتلاحقة على إنتاج الصيغ الأنسب لتحقيق إدارة فاعلة ومستدامة لهذا الواقع إلا دليل على تداخل الإعتبارات المحليّة وتشابكها مع المجالات الإقليميّة والدوليّة.

بعبدا

صحيحٌ أن بعض النظريّات التاريخيّة أعادت جذور الكيان اللبناني الراهن إلى القرون الماضية لا سيّما من خلال مقاطعة جبل لبنان، ولكن الشكل الحالي للجمهوريّة اللبنانيّة هو وليد بشكل أو بآخر حقبة اتفاقيّة سايكس – بيكو الشهيرة وإعلان المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو عن قيامه في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920. وإستمر هذا الوطن الذي تم توسيعه ليضم أقضية ومساحات جديدة يحمل هذه التسمية حتى 23 أيّار/ مايو 1926 عندما أعلن الدستور اللبناني وتم تحويل التسمية إلى الجمهوريّة اللبنانيّة.

بصرف النظر عن الظروف التي أدّت إلى ولادة هذا الكيان اللبناني والطريقة التي تمت بها، فإن لبنان نال إستقلاله سنة 1943 بعد تباين فرنسي – بريطاني وتبعاً لمصالح كل من البلدين أثناء الحرب العالميّة الثانية ووفق صيغة مبهمة أطلق عليها إسم “الميثاق الوطني” الذي عكس تسوية بين المسلمين والمسيحيين. مهما يكن من أمر، وبعيداً عن نظريّات التأريخ وإستعادة الماضي الذي باتت تفاصيله معروفة، فإن الأهم هو قراءة التحوّلات الأساسيّة التي حصلت في لبنان بعد إنتهاء الحرب الأهلية سنة 1990 والبدء بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة بإتفاق الطائف.

لا شك أن تحويل بعض صلاحيات رئيس الجمهوريّة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً أعاد صياغة طريقة عمل المؤسسات الدستوريّة وفق معطيات جديدة، ولكن الأهم من ذلك هو أن إتفاق الطائف حسم ثلاث إشكاليّات هامة هي على التوالي: تأكيده على نهائية لبنان، وعروبته، وتكريسه صيغة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بصرف النظر عن الإعتبارات الديموغرافية.

السراي الحكومي

إلا أن إدارة التنوع اللبناني أخذت إتجاهات أكثر تعقيداً وإشكاليّة في السنوات القليلة المنصرمة لا سيّما مع إصرار بعض الأطراف اللبنانيّة على تحويل حقها في المشاركة في السلطة إلى حق في التعطيل، وذهابها إلى فلسفة هذه الخطوات التعطيليّة في محاولة لإيهام الرأي العام بأن التعطيل هو “حق دستوري” و “ممارسة ديمقراطيّة” وما شاكل ذلك من التعابير التي، لو صحّت، فإن من شأنها أن تعيد تعريف الديمقراطيّة وأصولها من الجذور وفق مفاهيم جديدة تتناسب مع عمق الابتكارات الفكريّة والفقهية التي يروّج لها هؤلاء!

لقد عطلت تلك الأطراف انتخاب الرئيس اللبناني الجديد منذ أكثر من سنة، فإنقضت ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان دون أن يسلّم مقاليد الرئاسة إلى خلفه، تماماً كما لم يستلمها هو من سلفه. والسبب في ذلك الإستمرار في السقوف المرتفعة في الترشيحات التي لم تنل العدد الكافي من الأصوات في جولة الإقتراع الأولى، والوحيدة، في المجلس النيابي.

فلقد عكست خارطة توزع القوى في مجلس النواب حتميّة تفاهم الفرقاء فيما بينهم لانتخاب الرئيس طالما أن أيّاً منهم لا يملك الأكثرية الكافية للتفرّد بالقرار وطالما أن الكتلة الوسطيّة الوازنة التي ترجح الكفة وهي كتلة اللقاء الديمقراطي التي يرأسها النائب وليد جنبلاط مصرّة على ترشيح أحد أعضائها وهو النائب هنري حلو ولا تريد التصويت لأي من المرشحين الآخرين أي العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع حفاظاً على التوازن السياسي في البلد.

وبعد تعطيل الرئاسة، انتقل التعطيل إلى مجلس النواب، فرفضت بعض القوى عقد جلسات تشريعيّة له، حتى ولو كان لإقرار مشاريع تنموية في غاية الأهميّة هددّت العديد من هيئات التمويل الدوليّة بسحبها في حال لم تتم الموافقة عليها، تحت ذريعة أن المجلس هو هيئة ناخبة وليس هيئة تشريعيّة في ظل عدم إنتخاب الرئيس. وبالفعل فقد لبنان مبلغ 45 مليون يورو كانت مخصصة الوكالة الفرنسيّة للتنمية للمساعدة في بناء مدارس حكوميّة جديدة، ولا يزال احتمال إلغاء قروض أخرى وارداً!

وبعد الرئاسة ومجلس النواب، وصل التعطيل والشلل إلى آخر معقل مؤسساتي عامل في لبنان وهو مجلس الوزراء إذ إشترطت الأطراف ذاتها المباشرة بإقرار تعيينات عسكريّة قبل الإنصراف إلى أي أمر على الرغم من أن مهل التعيينات السابقة لم تنقض بعد. وغرق مجلس الوزراء اللبناني في نقاشات بيزنطيّة حول آلية العمل فيما غرقت البلاد بالنفايات على الطرقات لإصرار بعض الوزراء على قطع الطريق على النقاش في أي ملف قبل إنجاز آلية العمل!

هذه الاشكاليّات الآخذة في التوسع تحتّم مقاربات جديدة من دون الدخول في مغامرات غير محسوبة النتائج كالنقاش في صيغة جديدة أو تطبيق الفدراليّة أو سواها من الأفكار الصعبة التحقيق. ففي ظل عدم الاتفاق على البديهيّات، فهل من الممكن الاتفاق على الجوهر؟

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (مجلة الخليج)

بعد اعتداءات باريس.. كيف وصلنا إلى هنا؟

لبنان.. فرج رئاسي لن يأتي!

المسار “الشيطاني” بين واشنطن وطهران!

حروب الشرق الأوسط مرشحة للاستمرار طويلاً!

دلالات زيارة جنبلاط إلى السعودية

هل من آفاق للتغيير الحقيقي في لبنان؟

روسيا وإعادة تعويم النظام السوري!

مأساة المهاجرين: وجه أول من وجوه متعددة!

عن الحراك “الشعبي” في لبنان

الديكتاتوريات ولدت الفوضى وليس الثورات!

إعادة تعويم النظام السوري خطيئة!

هل وصلت الحرب السوريّة إلى خواتيمها؟

هل تخدم الفوضى العربيّة سياسات واشنطن؟

اتفاق الغرب مع طهران: توسيع أم تقليص للنفوذ الإيراني؟

هل هي لعنة التاريخ أم الجغرافيا؟

الأمير سعود الفيصل: ديبلوماسية، شجاعة، اعتدال

لبنان على مفترق طرق… كما كان دائماً!