هل هي لعنة التاريخ أم الجغرافيا؟

رامي الريس (مجلة الخليج)

من الكتب الشهيرة التي لاقت رواجاً في الغرب كتاب للباحث روبرت كابلان بعنوان “انتقام الجغرافيا” وما يُفترض بالخرائط الجغرافية أن تتوقعه حيال النزاعات القادمة والمعركة المنتظرة في مواجهة المصير الآتي. ولعل هذا الكتاب الصادر تزامناً مع اندلاع شرارة التغيير في العالم العربي يُقدّم في أحد جوانبه تفسيراً لبعض ما يجري في المنطقة العربيّة في هذه الحقبة لا سيّما أنه يطرح تلك العلاقة الإشكاليّة بين التاريخ وأحداثه العاصفة التي تمخضّت عن رسم خرائط وحدود بين الدول، وبين الجغرافيا التي لا تنفك تفرضُ نفسها على مجريات الوقائع في الشرق الأوسط مع تعدد اللاعبين وتشابك مصالحهم وتضارب مشاريعهم وطموحاتهم.

إنها من المفارقات الغريبة أن تكون تلك التقسيمات التي فرضها الاحتلال البريطاني والفرنسي على منطقة الشرق الأوسط بُعيد الحرب العالميّة الأولى والتي اعتُبرت آنذاك بأن هدفها الأساسي شرذمة المنطقة العربيّة وتقسيمها (وهي في جانبٍ أساسي منها كانت فعلاً كذلك)، هي التقسيمات التي تحوّلت بعد عقودٍ إلى أمر واقع وصار الحفاظ عليها يُشكل جزءاً من الحفاظ على شبكة الاستقرار الاقليمي وتالياً الدولي.

إن إنهيار الحدود الجغرافيّة بين الدول وسقوط المعادلات التي رسمتها اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة يُنذر بتحولات غير مسبوقة على مستوى المنطقة برمتها لا سيّما أن هذه المتغيرات الدراماتيكيّة ليست وليدة عوامل سياسيّة طبيعيّة نتجت عن اتفاقات أو تفاهمات بين الدول أسوةً بالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، الذي أعاد رسم هويته السياسية من خلال ترفع الأعضاء عن مكتسبات ذاتيّة وطنيّة للمصلحة العامة والمشتركة.

هذا الانهيار على المستوى العربي يعيد رسم الحدود الجغرافيّة بالدم وليس بحبر تواقيع الاتفاقات الثنائية أو الثلاثية أو الجماعية كما هي الحال في أوروبا. صحيحٌ أن الأهداف الاستعماريّة في مطلع القرن العشرين لم تكن تبحث في تلك التقسيمات السياسيّة إلا عن مصالحها المباشرة والدليل الأسطع على ذلك هو مساعدتها الحثيثة لزرع الكيان الإسرائيلي في قلب فلسطين والمنطقة العربية، ولكن سرعان ما تحوّلت هذه الحدود إلى أمرٍ واقع تولدت عنه ممارسات وعادات وتقاليد وأعراف سياسيّة ومجتمعيّة وشعبيّة أدت إلى تمتع كل الكيانات العربيّة بخصوصيات لم يعد التراجع عنها بالأمر السهل لا سيّما إذا كان هذا التراجع يتم بالقوة والعنف ولمصلحة مشاريع إنتحاريّة وإرهابية بالحد الأدنى!

إن التطورات التي تشهدها المنطقة العربيّة هي أيضاً نتاج صراعات إقليميّة بين محاور مختلفة، فالمحور الذي تقوده طهران وهو في عمقه مشروع توسعي يريد الوصول في نفوذه إلى كل أعماق العالم العربي والعمل الحثيث على إستبدال تدريجي للهوية العربية بهوية غريبة عن كل مكوناته، ولا يتوانى، في سبيل تحقيق ذلك، عن إستحضار العامل المذهبي تحقيقاً لمآربه وأهدافه المرتكزة أساساً إلى إعتبارات تاريخيّة إمبراطوريّة تريد إعادة إحياء الأمجاد الغابرة.

من هنا، فإن سعي طهران الحثيث، لا بل استماتة قيادتها، للحفاظ على بقايا النظام السوري ولو على حساب الشعب السوري وتدمير سوريا لا يمكن فهمه خارج هذا الإطار، كذلك، دعمها للانقلاب الحوثي في اليمن، وعملها الدؤوب منذ الثمانينات في القرن الماضي لتقوية ودعم حزب الله في لبنان يصب في الإطار ذاته أيضاً، وهذا أمر ليس خافياً على أحد، لا بل إن قيادة حزب الله نفسها لا تنكر هذا الدعم إن لم يكن أنها تُفاخر به وقد أعلنت عن ذلك مراراً وتكراراً.

من هنا، فإن تشكل هذه الولاءات العابرة للحدود الجغرافيّة وانطلاقها من المرتكزات المذهبية هو الذي سيقود المنطقة العربيّة نحو صراعات دموية طويلة الأمد، ولن يكون من السهل وضع حدٍ لها أو إيجاد تسويات سياسية لمعالجتها. ورويداً رويداً، قد تتجه الأمور نحو إعادة رسم الحدود وفقاً لمعطياتٍ جديدة مغايرة عن السابق تكون عناصر التفجير والتوتر والتشرذم مندرجة فيها. والمستفيد الأول بطبيعة الحال هو إسرائيل التي ترى حلمها التاريخي يتحقق من خلال الاقتتال الطائفي والمذهبي البغيض وهي تقف متفرجة على التقهقر العربي والاسلامي.
هل هي لعنة التاريخ أم الجغرافيا؟ ربما الاثنين معاً!

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (مجلة الخليج)

بعد اعتداءات باريس.. كيف وصلنا إلى هنا؟

لبنان.. فرج رئاسي لن يأتي!

المسار “الشيطاني” بين واشنطن وطهران!

حروب الشرق الأوسط مرشحة للاستمرار طويلاً!

دلالات زيارة جنبلاط إلى السعودية

هل من آفاق للتغيير الحقيقي في لبنان؟

روسيا وإعادة تعويم النظام السوري!

مأساة المهاجرين: وجه أول من وجوه متعددة!

عن الحراك “الشعبي” في لبنان

الديكتاتوريات ولدت الفوضى وليس الثورات!

إعادة تعويم النظام السوري خطيئة!

هل وصلت الحرب السوريّة إلى خواتيمها؟

هل تخدم الفوضى العربيّة سياسات واشنطن؟

لبنان.. عندما تُفلسف بعض القوى سياسة التعطيل!

اتفاق الغرب مع طهران: توسيع أم تقليص للنفوذ الإيراني؟

الأمير سعود الفيصل: ديبلوماسية، شجاعة، اعتدال

لبنان على مفترق طرق… كما كان دائماً!