قراءة لما بعد الإتفاق النووي!

رامي الريس

أما وقد إنطفأت عدسات المصورين وعاد الهدوء ليخيم على قصر كوبرغ الشهير بعد مغادرة رؤساء الديبلوماسية الأوروبية والأميركية والإيرانية وإنصرف موظفوه لمعاودة وتيرة عملهم الطبيعي، آن الآوان للتفكير الجدي بمفاعيل هذا الإتفاق الذي سيشكل حتماً منعطفاً هاماً في تاريخ العلاقات الدولية. هذه بعض الملاحظات الأولية:

الملاحظة الأولى: سقطت صفة الشر عن إيران (وبالتالي صار من حق أي مراقب أن يتساءل عن مصير محور الشر الذي تزعمته طهران طوال عقود). وفي المقابل، سقطت صفة “الشيطان الأكبر” عن الولايات المتحدة الأميركية. من هنا، كيف يمكن لـ”شحطة قلم” أن تنسف إتهامات عمرها عقود نتجت عنها مفاعيل سياسية وعسكرية وإقتصادية وقانونية مسّت بحياة ومستقبل عشرات الألوف من الأشخاص حول العالم وغيّرت مسارات سياسية لسنواتٍ طويلة؟

الملاحظة الثانية: بعيداً عن الشكليات اللفظية والإتهامات السياسية والإعلامية المتبادلة، شكل هذا الإتفاق لحظة تقاطع مصالح هامة بين الدول الكبرى وإيران. الرئيس الأميركي يريد “شراء” الإتفاق بأي ثمن كي يضيفه إلى “سجل” إنجازاته بالتوازي مع الإنفتاح التاريخي على كوبا عله بذلك يغطي إخفاقاته غير المسبوقة في القضية الفلسطينية والحرب السورية وحالة الفوضى العارمة التي غرقت فيها المنطقة العربية والإسلامية وهو يقف مكتوف الأيدي ومتفرحاً.

في المقابل، إيران أُنهكت من العقوبات الإقتصادية الطويلة وبلغت حدود الإنهيار ما لم يتم ضخ الأموال في الإقتصاد الإيراني المتهاوي. ومن غير المستبعد أن نشهد “زحمة” و “تدافعاً” غربياً على السوق الإيرانية الكبيرة التي هي عملياً بحاجةٍ إلى كل شيء! فالغرب أول ما يكترث لمصالحه الإقتصادية وشركاته العملاقة، وهو سيسعد بأن يُفتح أمامه سوق إستهلاكي جديد عدد سكانه يزيد عن 75 مليون نسمة!

IRAN-NUCLEAR/

الملاحظة الثالثة: يُشكل هذا الإتفاق إعترافاً غير مباشر بدور طهران الإقليمي، وهي التي إستطاعت خلال عقودٍ من العمل المضني والمتواصل أن توسع نفوذها السياسي (والأمني) إلى عددٍ لا بأس به من الساحات العربية كاليمن والبحرين والعراق ولبنان. وهذا الإعتراف سعت إليه طهران منذ سنوات لأنه في مكانٍ ما يعيد إحياء الأمجاد الأمبراطورية ويقدّمها كدولة “عظمى”، وهي تكبّدت في سبيل ذلك تكاليف مالية وغير مالية باهظة، وحان الآن وقت القطاف!

إن هذا الإعتراف غير المباشر بالدور الإقليمي المتنامي، من جهة، و”تحرير” الأموال الإيرانية المحجوزة والإستثمار الغربي داخل إيران من جهة ثانية هما عاملان متقدمان في رسم الدور المستقبلي لطهران في المنطقة والذي قد يأخذ أشكالاً مختلفة.

الملاحظة الرابعة: على عكس ما يتم الترويج له، أغلب الظن أن صفات التعقيد ستبقى ملازمة لعددٍ من النزاعات والحروب منها الحرب الدائرة في سوريا والتي تغاضى الرئيس الأميركي باراك أوباما طوال أربع سنوات عن الدور الإيراني السلبي، لا بل الدموي فيها، من خلال دعم النظام السوري، لا بل هو كتب إلى المرشد الأعلى الإيراني آية الله على خامنئي في تشرين الأول الماضي أنه يتعهد بألا تقصف الطائرات الأميركية قوات حليفه السوري. وهذا ما حصل فعلاً، فالرجل يحترم كلمته ولا يتراجع عنها، بإستثناء طبعاً تهديده بالتحرك ضد النظام السوري في حال إستخدامه السلاح الكيماوي، إلا أنه لم يفعل شيئاً سوى الإدانة والاستنكار قبل عقد صفقة مع موسكو لسحب الترسانة الكيماوية السورية مقدماً بذلك خدمة كبيرة لحليفته إسرائيل ومتغاضياً عن إستمرار القتل بكل أنواعه التي واصل النظام القيام بها دون هوادة!

الملاحظة الخامسة: الإنطفاء التام لقضية فلسطين التي لم يستطع شعبها إستعادة حقوق المغتصبة في فترات النزاع الدولي ولن يقوى على تحصيلها في حقبة “الوئام” الدولي. إسرائيل سوف تفتش عن طرق وأساليب جديدة لتبتز الولايات المتحدة، وهي تجيد ذلك، وستتأقلم تالياً بعد قبض الأثمان المطلوبة مع الإتفاق الجديد. وحده الشعب الفلسطيني سيكون متروكاً لقدره، كما كان دائماً، بؤجج أزمته إستمرار حالة الإنقسام الفلسطيني-الفلسطيني الذي عاد وأخذ أبعاداً جديدةً في الأسابع القليلة الماضية!

الملاحظة السادسة: مع توقيع هذا الاتفاق، وتفشي واقع الصراع المذهبي في المنطقة العربية، ومع الغياب العربي شبه التام عن الساحة السياسية الإقليمية، سيكون هناك المزيد من التأزم والتوتر الذي لا يمكن تجاوزه إلا من خلال إعادة تعريف جديد لمفهوم العروبة المتحررة والمتنورة كرابط يعلو فوق الحساسيات الطائفية والمذهبية ويساهم في خلق مناخات جديدة يستطيع من خلالها العالم العربي مواجهته التحديات القادمة وفق قواعد جديدة. هذا، بطبيعة الحال، رهن بمواقف الدول العربية الكبرى وفي طليعتها مصر والمملكة العربية السعودية.

أخيراً، بعيداً عن نظريات عشرات المحللين الإستراتيجيين الملتصقين بمحور الممانعة (الذي قد يضطر للبحث عن تسمية جديدة بالمناسبة)، والذين سيتوزعون على الشاشات ترويجاً لإنتصار هذا المحور؛ تبقى الإشارة إلى أن المرحلة الجديدة تتطلب مقارباتٍ جديدة ورؤى جديدة وخطوات جديدة!

———————————–

(*) رئيس تحرير جريدة “الأنباء” الالكترونيّة

Facebook: Rami Rayess II

Twitter: @RamiRayess

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس

عن الخرائط التي تُرسم والإتفاقات التي تتساقط!

التسوية شجاعة وإقدام!

الأحزاب وبناء الدولة في لبنان

أعيدوا الاعتبار لـ “الطائف”!

الإعلام والقضاء والديمقراطية!

وفروا مغامراتكم المجربة… واقرأوا!

عن “الأقوياء في طوائفهم!”

ما بعد الإنتخابات النيابية!

لمن سأقترع في السادس من أيّار؟

إنه السادس من أيار!

لائحة المصالحة: قراءة هادئة للعناوين والتطلعات

لا، ليست إنتخابات عادية!

عن تجاوز الطائف والأكلاف الباهظة!

الشعب الإيراني يريد النأي بالنفس!

الإصلاح ثم الإصلاح ثم الإصلاح!

للتريث في قراءة مفاعيل التريث!

كيف ستنطلق السنة الثانية من العهد؟

تغيير مفهوم الإصلاح!

“حبيبتي الدولة”!

من حقّ الناس أن تتعب!