مستقبل لبنان رَهن الخارج

جورج علم (الجمهورية)

لا تسقط شعرة من رؤوس اللبنانيين إلّا بأمر من الوالي الخارجي، والولاة كُثر، وإن كان الأميركي هو الأفعَل بامتياز نظراً إلى الأوراق الكثيرة التي لا يزال يحتفظ بها في الساحات المحليّة والإقليميّة. استقالة الحكومة لا تُمليها حسابات محليّة تفرضها التوازنات القائمة على اقتصاد هَشّ ووَضع أمني متفلّت، بقدر ما تخضع لحسابات خارجيّة دقيقة توازن ما بين إيجابيات بقائها وسلبيات رحيلها.

وليست هذه المقاربة بجديدة، إنها من نتاج الفوضى التي اجتاحت قيَمنا الدستورية والديموقراطية، ليصبح الفساد قاعدة، والمذهبية والطائفية بديلاً عن المواطنيّة الحقّة. فعندما يغيب القرار الوطني الجامِع، وعندما تتعطل طاولة الحوار، ويتعمّق الانقسام حول المواضيع الكبيرة والصغيرة، ليَشمل الاستحقاقات الدستوريّة، وقانون الانتخاب، والزواج المدني، ودور المرأة في الحياة العامة.

وعندما يصبح الولاء للخارج “موضَة دارجة”، هذا يُشَرّق وذاك يُغرّب، والغالبية تنتظر الإملاءات والتوجّهات للعمل بها، والاسترشاد بوَحيها، كيف يُصاغ تفاهم؟ وما الوسيلة الى قرار وطني جامع في ظلّ هذه الشواذات؟ وكيف تمارس سياسة النأي بالنفس، إذا كان النأي عن المواطن وهمومه المعيشيّة والاجتماعيّة والأمنيّة هو القاعدة؟

لم يعد ممكناً إنجاز قانون انتخاب صُنع في لبنان، إلّا إذا هَبط الوحي من الخارج، وفُرِض على أصحاب الشأن التلاقي والتفاهم. هذا يعني أن الغالبيّة التي تدّعي أنها تملك القرار نيابة عن الشعب اللبناني، قد سلّمت أمر البلد ومقدراته لهذه الدولة النافذة او تلك، ورَهنت المصير والمستقبل أيضاً.

وبدلاً من أن تستيقظ النخوة الوطنية للتلاقي والتفاهم على إنقاذ ما تبقّى من مكانة وطن، وهيبة دولة ومؤسسات، نرى أن الحسابات الضيقة تتقدم على المصلحة العامة، وحصّة كل طرف من كعكة السلطة أهم من الانتخابات كوسيلة لتجديد الحياة الديموقراطية، ومن تطبيق الدستور ومن احترام المهَل.

وبالتالي، لم تعد الضمانات عند هذه الطبقة السياسية، بل عند الخارج الذي يملك وسائل الضغط، ويقرّر الحاضر والمستقبل، وحَجم التداعيات التي سيتحمّل وزرها الشعب اللبناني.

هل تستقيل الحكومة؟ نعم إذا كان هناك من قرار دولي – إقليمي يدفع بها نحو الاستقالة، لأنه يعرف تماماً السلبيات التي ستترتّب على الأمن والاستقرار، والاقتصاد والأوضاع المعيشيّة والاجتماعيّة؟ هل ستجري الانتخابات النيابيّة في موعدها؟ نعم إذا كان هناك من قرار كبير يقضي باحترام الدستور والمهَل، والحرص على وحدة الدولة والمؤسسات. لكن إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فمعنى ذلك أنّ هناك مَن يريد التفريط بالمؤسسات الدستورية وتسييب البلد.

خاطبَت السفيرة الأميركية مورا كونيللي اللبنانيين بلغة واضحة مِن عين التينة: “الانتخابات حتماً وفي موعدها، ووِفق القانون المعمول به إذا ما تعذّر التفاهم على قانون يَحظى بتأييد غالبية اللبنانيّين”. إكتسَب هذا الكلام احتراماً كبيراً في أوساط السياسيين والمهتمّين بالشأن العام، في حين أن اللبنانيين لم يسمعوه بهذا الوضوح وهذه الجديّة من أيّ مسؤول لبناني.

وحتى لَو سمعوه، لَطَعنوا بصُدقيته، واستخفّوا بجدية تطبيقه. “الصوت الخارجي رنّان، ووَقعُه مهمّ على سَمع اللبنانيين؟!”. صحيح أن ردوداً صدرت، إلّا أنّ الردّ الأبلغ على كلام كونيللي جاء من السفير الروسي ألكسندر زاسيبكين من بنشعي، حيث أكّد أن بلاده “مع الانتخابات، لكن ليس بقرار خارجي؟!”.

يكفي التوقّف عند هذه الرمزيّة لتأكيد أمرين، الأول: أن لا شيء إيجابيّاً عند هذه الطبقة السياسية يمكن الركون إليه والاعتماد عليه. لا شيء على الإطلاق سوى الكيديات والمزايدات والمراهنات، حتى ولو كانت على حساب الوطن وثوابته ومصالحه.

طبقة سياسيّة مُفلسة، معدومة التأثير والقرار، تعيش على التناقضات في ما بينها، وتستثمر من رصيد اللبنانيين بعدما نجحَت في تفتيتهم شِيَعاً ومذاهب وطوائف وفئويات، وأفقرت السواد الأعظم منهم لحَمله على الاهتمام بقوتِه اليومي، بدلاً من الاهتمام بالشأن العام، وطريقة السعي إلى تجّنّب الكوارث والمصائب التي تنتجها السياسة المتّبعة.

الثاني: إنّ من يخوض بشؤون لبنان ويبتّ بها، هو الخارج، وليس هذه الطبقة السياسيّة التي تدّعي، وتدّعي، وتدّعي… إنها تدّعي زوراً وبهتاناً. نعم، قالت السفيرة الأميركية كلاماً في الانتخابات التي هي شأن لبناني داخلي، ورَدّ عليها السفير الروسي في الموضوع عينه.

فهل تجري الانتخابات في مواعيدها؟ ووفق أيّ قانون؟ هل تستقيل الحكومة أو تستمر في تحمّل مسؤولياتها؟ الجواب عند الخارج وليس عند أيّ من السياسيين المحليين. ومستقبل لبنان هو رَهن ما يريده الخارج، وليس “نواطير التفليسَة؟!”.