هواجس طائفة… ووطن

جورج علم (الجمهورية)

في كلّ مرة يطرح قانون الانتخاب على بساط القيادات المارونيّة، يتشعّب الحديث تلقائيّاً الى الهواجس المصيريّة، وحدة الأرض والشعب، مصير لبنان ومستقبله، ظاهرة بيع الأراضي المستمرة من دون ضوابط ناجعة، الهجرة، الإحباط المتمادي، الطلاق المتعمّد ما بين الشباب والوطن حيث الغالبية غير مكترثة، ولا يربطها به أيّ رابط قويّ، لأنه لم يقدّم لها سوى بطاقة هويّة وجواز سفر.

وفي كلّ مرّة يلتقي غبطة البطريرك بالقادة الموارنة، تتوقف عقارب الساعة عند غالبيّة الشرائح الأخرى، وتتكاثر الأسئلة حول ما يجري؟ وما يخطط له؟ ودائماً من خلفيّة مسكونة بهواجس التشكيك، والخوف من “مؤامرة”، او من “مكيدة”، او من طرح ينال من بعض النعم التي أغدقها الطائف على الطوائف الأخرى، وحرم المسيحيّين منها.

وما بين الهواجس المصيريّة والتشكيك، صلات رحم، ومسار كيديّ دأبت على تعزيز مكانته، كلّ الفعاليات السياسيّة من دون استثناء بعد أن اكتست العباءة الطائفيّة – المذهبيّة، والدليل أنها ترفض اليوم الحوار الوطني الذي دعا اليه رئيس الجمهوريّة، وترتضي بنصف الحوار الممَوّه باللجان النيابيّة الفرعيّة لكي يقول كل طرف ما يريده من الآخر تحت شعار البحث عن قانون جديد للانتخابات.

بطريرك الطائفة المارونيّة المدني ميشال إده، وعلى هامش غداء أقامه سفير لبنان الجديد لدى الأرجنتين أنطونيو عنداري في منزله السبت الماضي، بمناسبة قرب مغادرته الى بيونس أيريس، رفض القانون الأرثوذكسي، وطالب بقانون انتخاب على أساس 128 دائرة انتخابيّة، بحيث تكون الدائرة الفرديّة هي الأساس، كما هي الحال في معظم الدول العريقة بديموقراطيتها، بحيث يختار الناخب المرشح الذي يريد.

قد يؤخذ بهذا الاقتراح، او لا يؤخذ به، فهذا شأن آخر، لأن البعض ينظر الى الانتخابات كحدث وممرّ إلزامي للوصول الى تحقيق الهدف الشخصاني “قم، لأقعد مكانك”، فيما البعض الآخر ينظر الى قانون الانتخاب، وما بعده، بعَين مسكونة بالهواجس الوطنيّة والمصيريّة، ومدى القدرة على التغيير، ومدى إمكانيّة هذا التغيير في معالجة التحديات بروح وطنية جامعة، بعيداً عن التجاذبات المحاصصاتيّة الطائفيّة والمذهبيّة، وأيضا مدى القدرة على تحرير الآخر، ومساعدته على الخروج من شرنقة تقوقعه، وحساباته الشخصيّة الضيقة، والانفتاح على الآخر، والتلاقي والتحاور لبناء دولة القانون والمؤسسات، ووطن التعدد والتنوع في إطار الوحدة.

وبهذا، فإن المسيحييّن، وتحديداً الموارنة، محرجون، خصوصاً عندما يأتي الصوت من قيادات بارزة في الطوائف الأخرى تؤكد على أنها توافق على أي قانون انتخاب يتفق عليه المسيحيّون، واضعين الكرة في المرمى المسيحي – الماروني تحديداً.

والحقيقة أن بكركي تحترم هذه الدعوة، وتحاول، ولكن في كلّ مرّة يجتمع فيها القادة الموارنة، يتسابق الى المكان هاجسان، الأول، قانون انتخاب يؤمن لهذه الفعاليّة، او تلك، الاستمرارية في الوجاهة، والمرجعيّة في الكانتون، او المربع الأمني والسياسي. والثاني، هاجس المصير، مصير الوطن، والطائفة، ودورها في الوطن، والتوازن الديموغرافي، والحضور الفاعل المهدد بفعل الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت على مرّ العقود من غالبية هذه القيادات، ومن غيرها أيضا الذين ارتكبوا خطايا مميتة، وأخلصوا لمنطق الفساد والنفعيّة والمصالح الشخصيّة، على حساب مصلحة الوطن، ودولة المؤسسات، فحكموا باسم الطائفة، وتحكموا بمقدراتها طويلا، حتى أصبحت على ما هي عليه الآن.

وفي كلّ مرّة يدعو فيها غبطة البطريرك القادة الموارنة الى الاجتماع، يمثل الماضي، والحاضر، والمستقبل، أي التحدي في بعده التاريخي – الجغرافي، وهذا التحدّي لا يعالج بقانون انتخاب، بل بالمكاشفة الشجاعة للواقع المزري، والمستقبل المثقل بالتحديات، والمصير المطروح في مهبّ المتغيّرات التي تشهدها دول الجوار. قد يكون من المفيد أن تتحول مثل هذه الاجتماعات الى نوع من النقد الذاتي لوقف الانحدار، والتطلع الى العام بدلاً من الخاص.

أوليست الشخصانية هي من الأسباب التي أوصلت الأمور الى ما هي عليه، معطوفة على سياسة ضيقة، وأنانيّة مفرطة؟ إن المشكلة لا تكمن فقط بقانون الانتخاب الذي يريده كل طرف على قياس مصالحه، بل بالعقليّة السائدة التي حرقت الطائفة لتنشد الدفء لنفسها، وحرقت الوطن لمصلحة بيوتات وزعامات جاءت مع الطائف، وباسم الطائف، لتعزّز مكانة بعض الطوائف والمذاهب، على حساب البعض الآخر، وعلى حساب وطن يترنّح، ودولة ما عرفت يوماً أن تكون دولة قانون ومؤسسات؟!.

لا تبحث بكركي عن قانون انتخاب يثبّت للمسيحيين ما ترك لهم من دور وضرورة في تركيبة الطائف فحسب، بل تبحث عن إنقاذ وطن الرسالة من “التسونامي” الذي يضرب دول الجوار.