الانتخابات النيابية والحجج السيئة

د. قصي الحسين

لبنانياً، لم تتغلب تجربة الانتخابات النيابية بالكامل، مطلقاً على تاريخها. فكثير من أخطاء ماضيها لا يزال جارياً حتّى اليوم. ونحن نفتقر في الواقع إلى كلمة شجاعة وجريئة بل موقف جريء لتعرية تلك المجموعة المتنوعة من الأخطاء والأغلاط والمغالطات والالتباسات والتنافرات وأوجه القصور السياسي والتشريعي، بالإضافة إلى ما يتصل بها من التوافه والأكاذيب وفنون التضليل الإعلامي والمجتمعي، التي ورثناها وتداولناها في جميع الاستحقاقات النيابية السابقة.

وليس من الدقة بمكان، أن نطلق على كل هذه اسم “أخطاء” أو “ارتكابات” لكننا في الواقع نفتقر إلى كلمة أفضل منها، بل وأكثر دقة وتوصيفاً لها. غير أننا نعتقد أن أسوأ خطأ من بين ذلك، هو مجموعة وجهات النظر المعروفة باسم “الثنائية Dualism”، و”المادية Materialism”، و”الأحادية Momism”، و”الوظائفية Funetionalism”، و”السلوكية Behaviorism”، و”المثالية Idealism” و”نظرية الهوية Identity Theory” إذ إن هذه النظريات جميعاً، تتشارك فكرة رئيسية، في أن هناك مشكلة خاصّة حول العلاقة بين القانون الانتخابي والجمهور الناخب.

وفي تركيزهم على التوهم بوجود مشكلة، كانت السلطات اللبنانية أمام كل استحقاق انتخابي نيابي، تركز على إيجاد حلول مختلفة للمسألة الانتخابية بوصفها مشكلة انتخابية فقط لا غير وتتناسى غير ذلك من المشاكل.

ويعود هذا الخطأ إلى القدماء الذين وجدوا في الانتخابات مادة للتمايز والمحاصصة والمغالبة، وليس مادة للحكم الرشيد، الذي ينتج عن انتخابات رشيدة، لمسيرة وطنية رشيدة. وقد استمر هذا الخطأ تداولياً من جيل سياسي إلى جيل آخر، وصولاً إلى الأخطاء الحالية، مثل النظرية التفسيرية الراهنة للحاصل الانتخابي وللصوت التفضيلي وللوائح المتميّزة بألوانها وعدم الإنتقاء من بينها.

والأمر الذي يهم أن نراه هنا، هو أن جميع هذه الآراء التي تبدو مختلفة ومتضاربة هي في الحقيقة تعبيرات، بل وجوه تعبيرية عن الخطأ الأساس نفسه، والذي يمكن أن نسمه “الثنائية المفاهمية Conceptuel Dualism” في النظر إلى مسألة الانتخابات وصوت الناخب.

وهناك خطأ بالضخامة نفسها تقريباً، والذي ساد تقاليد السلطات اللبنانية في الانتخابات النيابية منذ أوائل القرن العشرين وما بعده، وهو خطأ الافتراض أننا لا نستطيع مطلقاً أن ندرك الموضوعات والظروف الجارية في العالم بصورة مباشرة، وأننا لا ندرك مباشرة إلاّ تجاربنا الشخصية. والهدف الرئيس هنا ليس تاريخياً، بل عرض تفسير أكثر دقة لإدراك العمليّة الانتخابية حيث يكمن معظم الفائدة من ذلك التفسير في محاولة تصحيح الأخطاء التي سبقته.

فإذا كانت لدينا رؤية سليمة، وتوافرت لنا إضاءة على الموضوع الانتخابي، على نحو معقول، بحيث نرى الأشياء والظروف بصورة مباشرة، فإننا ندرك أن للإنتخابات النيابية وجود مستقل تماماً عن رغبات السلطات السياسية وعن إدراكها لها، بما هي عملية، تعيد لها حظوتها في السلطة، وتثبيت حضورها في الدولة بعد العمليّة الانتخابية.

إن توصيف العمليّة الانتخابية بكل قوانينها وبكل إجراءاتها وبكل مشاهدها ووقائعها قبل موعد الاستحقاق وبعده أيضاً، يجب أن لا يأتي على قياس السلطات والقيادات والزعامات والطوائف والمناطق، بل جب أن يلبي حاجة الناخب اللبناني إلى الحرية والحيادية والعبور إلى الحداثة والحضور في المستقبل.

وهناك عنصران متمايزان: الظروف الموضوعية انطولوجياً التي يدركها الناخب مباشرة، والتجارب الشخصانية انطولوجياً المتعلقة بها. وعلينا أن نعرف كل هذا في العمليّة الانتخابية، قبل أن نبدأ التنظير حولها.

وبمجرد التنظير للعملية الانتخابية، سواء في تقسيم المناطق وفي توزيع اللوائح وفي شروطها أيضاًَ، أو في وجود الحاصل الانتخابي، أو في وجود الصوت التفضيلي، فإن سمة ثالثة تسقط على إرادة الناخب، تعكس إرادة السلطات في توجيه إرادة الناخبين، لا إلى طهرية الانتخابات بل إلى غشوشها المموهة، على الناخبين بألف وجه لألف سبب وسبب، أقلها عودة أركان السلطات إلى مزارعها الهوائية.

وهناك سمة رائعة، وهي في غاية الأهمية لهذا الاستقصاء: فإذا حاولت وصف الواقع الموضوعي للعملية الانتخابية، ثم حاولت وصف تجربتك الشخصانية لرؤيته، فسيكون الوصفان متطابقين في “المضمون القصدي intentional content”، حيث تكون موصوفات المضمون القصدي، هي نفسها التي تصف بل تعري أو تشف عن نتائج العمليّة الانتخابية التي يصورها المضمون القصدي لدى السلطات المتحكمة بها.

ومن أجل إظهار كيف أن كل الحجج في العمليّة الانتخابية التي وضعتها السلطات قدام الناخبين قبل اقبالهم على صناديق الاقتراع، إنما هي حجج سيئة، تستند إلى المغالطات نفسها التي ذكرناها سابقاً، فإنما علينا أن نؤكد التالي:

1- تمييز الحالة الحقيقية للعملية الانتخابية وحالة الهلوسة السياسية السيئة التي تشوبها، بتجربة الناخب الشخصانية النوعية التي تموه عليه سوء استعمال السلطة في سن القوانين والسير بها، لحصد مقاعد للسلطة نفسها، تجدد نفسها بنفسها عند كل استحقاق نيابي.

2- إنّ “البيان الحسي” بين الحالة الحقيقية للانتخابات وحالة الهلوسة السيئة المروجة كخدعة الناخبين وخداعهم في العمليّة الانتخابية، إنما يتجلى بوضوح من قرب السلطة والتصاقها بالصوت، حاصلاً وصوتاً تفضيلياً وبلوائح الترشيح عدداً أو ألواناً ومجموعات، إنما يجعل منها جميعاً حججاً سيئة، لا تليق بانتخابات نظيفة نطمح للوصول إليها.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث