الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

د. قصي الحسين

أحفزني ما قرأت للدكتور فضلو خوري رئيس الجامعة الأميركية، في عدد “النهار- جامعة” ( الخميس 27/9/2018 ، العدد26668). وهو عدد خاص صدر تحت عنوان: ” ضمان استمرار لبنان والاستثمار في شبابه”. وقد صدرت جريدة النهار يومها، بمانشيت: مانيفست لخلاص لبنان. ورأس تحرير هذا العدد: الدكتور فضلو خوري. وهو يضع النقاط على حروف المشكلة اللبنانية. وجاء في افتتاحيته: “فلندخل في صلب الموضوع، ولنقلها بصراحة: نحن نكاد نفقد لبنان، بعدما فقدنا الأخلاقيات التي تحتضن النظم والمعايير وسلم القيم والأعراف في المجالات كافة: من الدستور، إلى القانون، إلى الدين، إلى السياسة، إلى الإدارة، الى المجتمع، الى المدرسة، إلى الجامعة، الى الطبيعة والبيئة، وخصوصا بعدما فقدنا الأخلاقيات الإنسانوية، في الفرد والجماعة على السواء” وتحت عنوان: “حان الوقت لحياة أفضل”. يقول فضلو خوري، واضعا إصبعه على الجرح: ” بصراحة، لا نرى بديلا من التقدم الحازم، لأن الوقت ليس في صالح الشعب اللبناني، إذا استمر هذا المستوى من التدمير البيئي، والهدر الاقتصادي، والمحسوبية، والفساد، والاهتراء المؤسساتي”.. وينتهي للقول: “ان مواطني لبنان وسوريا وفلسطين والعراق يستحقون أفضل بكثير… حان الوقت لتكون لهم حياة أفضل”.

يتوقف د. اسكندر عند المفارقة الكامنة في انتشار مفهوم التحديث الإداري عالميا، ليقدم لنا تجربته في الوقت الذي كان في لبنان، يخرج من الثورة عام 1958، الى المدنية والتحديث الإداري في الستينات. ونراه ينتقل مادة مادة، وفصلا فصلا تباعا، لقراءة وجه الإدارة، ووجوه المساهمات الإدارية، التي يخوض فيها بنفسه. وغدت بالنسبة إليه، مادة نقاش في أروقة الجامعات، ومنها الجامعة الأميركية، انطلاقا بين مايرى في “الهناك” وما يرى “عندنا”، من مقاربات ومفارقات، تطغى عليها الأبعاد الأكادمية، وتطوح بها الحروب الأهلية. إذ سرعان  ما باتت الدولة، توصف بالدولة الكبيرة (Big State), أو الدولة الإدارية (Administrative State)، وأن هذا التحول الجذري لدور الدولة المعاصرة، قد أصبح موضع تشكيك ومساءلة على نطاق واسع، بسبب ما أوجده من خلل في الأنظمة الديمقراطية القائمة على مبدأ فصل السلطات وتوازنها، ما أدى الى تعرض حقوق المواطنين والحريات العامة، إلى التراجع والخطر. ناهيك عن تفاقم المشكلات الإدارية: مثل تنامي البيروقراطية، وتفشي الفساد، وتقادم الإجراءات وتعقيداتها، وتسلط الموظفين وغير ذلك من سوء استخدام السلطة للموارد الطبيعية القائمة: 1- يلقي الباحث الضوء أولا، بعد الحديث عن تحصيله العلمي، على دخوله سلك التعليم، إن في معهد التدريب على الإنماء في لبنان، أو في الجامعة الأميركية في بيروت، أو جامعة الإمارات العربية المتحدة، أو في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، (ص: 70- 115). ويخلص من ذلك للقول: إن القاعدة: ” لاشرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، لم تأت بجديد في علم السياسة، وإنما المسألة تبقى قائمة حول الارتقاء بالعملية السياسية وأدواتها، إلى مستويات قيام دولة المواطنة وسيادة القانون. وإن تجاربه الشخصية في مشروعات الإصلاح الحكومي، إنما أطاحت بها التطورات الحاصلة في المنطقة العربية والعالم، بأبعاها الأمنية.

حقا تأثرت بما كتبه د. فضلو خوري في العمق. حتى إني كنت أتحدث به أمام الزملاء والأصدقاء الذين تجمعنا بهم موائد النقاشات وحلقات الأدبيات وزوايا الوشايات. وكان من بينهم د. اسكندر بشير، شديد الإصغاء لحديثي. اختصر وقال: غدا سآتيك بكتابي. فهذا الهم الإداري كله فيه: بين الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية وجامعة العين- أبو ظبي. وهو اختصار كتاب: ” مسيرتي. تجارب وتطلعات في التحديث الإداري: لبنان- الامارات، مكتبة بيسان: 2015, 290 ص”. بداية، يتوقف بحث اسكندر بشير عند أطياف سيرته الآتية بين بلدته دوما، في قضاء البترون في شمال لبنان، وأفراد أسرته، وبين مدينة طرابلس ومدرسته الأميركان في القبة بطرابلس- لبنان، في خمسينيات القرن الماضي. ومن ثم انتقاله الى بيروت، وإتمام دراسته في الجامعة الأميركية، وانتدابه فيما بعد للتدريس فيها في مطلع الستينيات، وتأسيسه أيضا في جامعة( العين- أبوظبي)، وعودته إلى لبنان للتدريس في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية. يذكر د. اسكندر، أن والده أميل ابراهيم بشير، يحمل ” إجازة في الحقوق من الدرجة الاولى، من معهد الحقوق العربي في دمشق سنة 1925. وأن والدته هيلانة سليم بشير، إنما تخرجت من ثانوية زهرة الإحسان في بيروت، وترأست جمعية “فتاة الوطن الدومانية”، بين عامي( 1954-1987). وأنه تزوج العام1979، من الآنسة أندريه جوزيف عاقوري، ونالت إجازة في العلوم السياسية والإدارية العامة (PSPA). وبمثل هذة التفاصيل الغنية، يمهد د. اسكندر بشير، لكتابة رؤاه الشخصية وتطلعاته الفلسفية للتحديث الإداري بشكل عام.

2- تحدث د. اسكندر، عن عمله في معهد التنمية الإدارية في أبوظبي(1988- 1991)، في وظيفة مستشار، وفي وظيفة مدرب، وفي وظيفة مؤسس. ونراه يبحث في العلاقة العضوية بين التدريب والتعلم. كما يضع مفهوم التدريب في سياقه التاريخي ، مدبجا للمداخل النظرية، لفلسفة التدريب بعامة، بكل إشكالياتها واتجاهاتها. دون أن ينسى الحديث عن أهداف المعهد وهيكليته وأنشطته والسياقات العملانية التي يسير فيها العمل، والأبحاث والمؤتمرات المتصلة بها. 3- ينظر الباحث بشير، كمدير للمشروع الوطني لتطوير إدارة الخدمات العامة في دولة قطر(2003-2005) ،في أهداف المشروع، ويفصل في هيكليته، ومراحله التي اجتازها، والخطوات الإجرائية الأولية التي خطاها في المرحلتين: الأولى والثانية، متحدثا عن (منتديات الدوحةDDF,S), التي أسسها وشارك فيها، باحثا ومقرراً (ص163-193). وهو الذي عبر عن تجربته الغنية في مجالي:”التطوير الإداري والتنمية المستدامة”، كونهما يشكلان منطلقات التقدم في الدول العربية خصوصا. 4- يقدم د. اسكندر، قراءة قيمة لنموذج حكومة أبوظبي في التطوير الإداري(2005-2015). توقف مثلا عند “خطاب التمكين” للشيخ خليفة بن زايد في ذكرى جلوسه الأولى في 2oo5/11/2 . وهو يتضمن مجموعة من التوجيهات بشأن مرافق الإمارة، لمواصلة البناء والتطوير. ثم ينتقل للحديث عن لجنة إعادة هيكلة القطاع العام، وأنشطتها، وكذلك عن تطورات العملية الإدارية. ويقدم في النهاية، تقويما عاما، لإعادة الهيكلة(ص191-224)، بحيث رأى أن “مسيرة التمكين والحداثة”، إنما حققت نجاحات كبيرة في إحداث تحولات جذرية في هيكلة الحكومة وبنية عملها، لأجل تأسيس مشاريع التنمية الشاملة. 5- خلص الباحث أخيرا وليس آخرا، لتقديم نظرة خاصة، حول مستجدات تطوير الإدارة العامة في لبنان. فتحدث أولا عن تطورات آليات الأصلاح والتطوير وصلاحياتها، وعن مراحل أعداد “استراتجيا” تنمية وتطوير الإدارة العامة، عام2011. وكذلك عن أهداف “الاستراتيجيا” ومكوناتها الأساسية، وعن مشروع اللامركزية الإدارية. 6- وفي خلاصات بحثه القيم، يذهب الباحث أسكندر بشير، للتأكيد على ضرورة الحكومة الذكية، وأنها لا بد آتية. وعن إعطاء أولوية لنهج التخطيط المبرمج للإصلاح. وعن إرادة التغيير، كونها (وظيفة) متصاعدة الأهمية، بالإضافة الى ضرورة تفعيل آلية الإصلاح والتطوير في لبنان، وتجنب مخاطر الاسترسال في سياسة الخصخصة، وانه لا بد من تجاوز الطائفية السياسية والمحاصصة في لبنان، والشروع في ” علم” الإدارة العامة، وإثراء المعرفة الإدارية في الدراسات المقارنة وتطبيقاتها كافة، في مجالات إصلاح الإدارة العامة، في لبنان بخاصة، والدول العربية قاطبة بعامة.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

 

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”