كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

د. قصي الحسين

حين خلع الزعيم وليد جنبلاط، على نجله تيمور عباءة الزعامة الوطنية، وجدها عالقة تاريخياً بالكوفية الفلسطينية، فجدلها حول عنقه، وسرّح نظره من فوق أقبية التاريخ في قصر الثورات في المختارة إلى ساحل عكا ويافا وداخل القدس ورام الله ونابلس وطول كرم والناصرة والخليل والجليل واللد والرملة وشاطئ طبرية. ورفع بصره أيضاً إلى جبل الشيخ وجبل حرمون. وفرك بيده عينه الّتي اشتعلت فجأة واحمرت مقلتاه، وقد أبصر دماء الشهداء الجنبلاطيين القدماء، علي وبشير، تسيل على أرض فلسطين، تروي ترابها الحزين. ولاحت فجأة كوفية الشهيد بشير جنبلاط، خفاقة فوق قلعة عكا، وقد ند الجزار عنها وأخذت تعلو فوق عمود الشهادة المعلق، وهي تصيح كالهامة: أغيثوني، أغيثوني.

تذكر وليد جنبلاط سليل الشهداء الجنبلاطيين أيضاً كوفية الشهيد فؤاد جنبلاط، وقد غدروا به في ليلة ظلماء وهو على صهوة جواده يؤلف بين طيات جبل بني معروف، حراس فلسطين. وتذكر أيضاً أن الكوفية العالقة بعباءة الزعامة الّتي وشحته، إنما هي كوفية شهيد فلسطين وشهيد المقاومة الفلسطينية وشهيد الحركة الوطنية الّتي التحمت بها طيلة ربع قرن من النضال، فأخذها بعينيه العاشقتين المحمرتين كالجمر، وقال لنجله تيمور في حفل التسليم والاستلام: هذه الكوفية الّتي وشحت بها هذه الدار دار المختارة أعناق رجالها، شهيداً أثر شهيد، هي رمز العباءة الجنبلاطية  منذ تاريخها الطويل مع الطغاة في فلسطين، لا تنفصل ولا تنفك عن نسيجها. ومثلما هو قدر بني معروف النضال في وجه الطغاة والمغتصبين والمحتلين، فهو قدرك أيضاً في تحمل هذا الوزر النضالي الثوري، كما تحمله رجال هذه الدار، دار المختارة ما عاشوا منذ سنين وسنين.

كأن الزعيم الرؤيوي وليد جنبلاط، وهو يوشح عنق نجله المناضل في حفل تقليد الزعامة الجنبلاطية، بالكوفية الفلسطينية أيضاً، كان يقرأ ثقل الاضطهاد التاريخي الذي مارسه الطغاة والمحتلون الصهاينة على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب اللبناني معه على حدّ سواء. وكان يرى إلى الدماء الّتي اسودت في خطوط نسيجها، دعوة المغاث والمغيث. وأن هذا الحزن التاريخي الذي يسودها، لا بد أن تستجيب له أفئدة الفلسطينيين من غزة ورام الله مشاعل غضب في ظاهرة ثورية لم يشهدها العالم، هي مليونية القدس الشريف، في الجمعة الأخيرة من رمضان ولو بعد خمسين عاماً من الاحتلال.

من بداءة المسلمات في التحري عن شد العصب في الصراع على فلسطين مع الطغاة والصهاينة المحتلين، القول بإن مليونية القدس، كما الزحف الشعبي المجاهد إلى الحدود مع غزة، إنما هو تعبير عن نزوع مثقل بتاريخ طويل من الاضطهاد والاحتلال. إنه الرد المباشر على ايديولوجيا الكمون الصهيوني في كهوف النسبيات الآفلة. إنه الرد المباشر أيضاً على معالم المسلك الذي تلجئها ضرورات المهادنات التاريخيّة ومساومات الأزمنة، فيما تظل الصهيونية الحاقدة والمنقلبة على الحقوق والعهود، تهجس بالقتل وتنذر به حتّى آخر شبر من تراب، وحتى آخر قبر طبعت فوق شاهده شهقة من عذاب.

خدعت الصهيونية أصحابها أنفسهم، أهل دعوتها الأوائل، تماماً كما خدعت أصدقاءها وموآزريها الغربيين التاريخيين. قدمت لهم أطروحتها الثلاث لبناء الدولة اليهودية: الأرض والعرق والدين، لتعيين موقعها ومهمتها في محفل الأمم الأخرى. وهي الأمم الّتي بخلاف الاستيطان الصهيوني، تود أن تسكن الأرض سكنى السعي إلى الألفة والوئام والتواصي بالحق والخير والصلاح والجمال.

ويرد زحف الشعب الفلسطيني إلى الحدود مع غزة كما مليونية القدس، على استئثار الصهيونية بمقولة الأرض الطاهرة الّتي لا يسكنها سوى أهل الموعد والميثاق من شعب الله المختار. وها هو الشعب الفلسطيني كله يزحف بمليونية القدس ليسفه هذا الشعار، ولو ابتليت أجساد شهدائه وجرحاه بالحديد والنار.

وزحف الشعب الفلسطيني بالملايين إلى القدس الشريف وإلى حدود الأرض السليب والمغتصبة، إنما يريد أن يبطل في الصهيونية، مقولة الصفاء العرقي. فقد هب المسلمون والمسيحيون من أرجاء الأرض كافة لنصرة فلسطين والشعب الفلسطيني، في رسالة للغاصبين الأنقياء، أن فلسطين مفطورة على الترابط والتلاقي والتواصل والتشارك. وأن العرقية الصهيونية إنما تحبس الكيان الإنساني والفردي والجماعي في دائرة العزلة والإنطواء الذاتي. وأن العنصرية لمما يحاربها العالم كله في جميع أنديته وأروقته. وأنه لمن السخف أن تزيف إرادات الشعوب في التلاقي والتعاون والتآزر كأخوة أو كأنداد لا فرق.

وتجيء هذه الزحوف الشعبية الفلسطينية والعالمية المتآزرة معها، لتندد بتمجيد الهوية الفردانية الذاتية، الّتي تشتغل عليها الدولة الصهيونية المعاصرة، أي هوية المملكة الصهيونية. إنها رسالة للعالم بتجديد الهويات الدينية جميعاً على أرض فلسطين الّتي كانت مهد الأديان التاريخيّة جميعاً في العالم قاطبة. وأنه لتزوير لتاريخ فلسطين المتنوع إن تختلط الديانة اليهودية بمطمح السياسة، بحيث ينقلب الأمر إلى مدعاة لاستئثار وإثبات الذات، على حساب الآخرين جميعاً وقهرهم.

وأنه لمن المحن الّتي ابتلي بها العالم، هو استجداء السياسة لأيدي اللاهوتيات، ونصرة للروحيات في تبرير الكثير من ممارسات التسلط التاريخيّة الّتي انحرف بها الكثيرون من أصحاب هذه المشاريع في الشرق والغرب عن صراط الاستقامة الإنسانية في مشروعات المعابد الروحية والعواصم المدنية. فالمليونية الفلسطينية اليوم وفي القدس الشريف خصوصاً، لمما يحمل على معنى نضال الانعتاق من الإثرة الذاتية البغيضة، تماماً كما يحمل على معنى الخروج والتجاوز والنكران، لأجل الدفاع عن التنوع الإنساني، لا لأسر العالم في المشروعات الصهيونية.

إن الشعب الفلسطيني، كما شعوب العالم المتألم من مشروعات الصهيونية السالبة، إنما دفعهم الاضطهاد المزمن والاستعمار المستمر وغطرسة الطيران الحربي واستكبار تجار السلاح والحديد والنار، للخروج بأجسادهم العارية وبكوفياتهم المثقلة بالدم والحزن والسواد وبطائراتهم الورقية الشراعية، لدك هياكل الاقتدار السياسي وبنى الغلبة الاقتصادية والمالية، وهي في أقصى مراميها أن تسخر الكون كله لا شعب فلسطين وحده لتثبيت ذاتيتها المبتلية بأمراض الاصطفاء والاستعلاء والاستكبار.

وفي عنق الزعيم المجدد الشاب تيمور جنبلاط كوفية فلسطين كوفية أجداده الجنبلاطيين العروبيين والوطنيين الشرفاء من بني معروف الأماجد، الّذين ثبتوا أنظارهم منذ الشيخ بشير جنبلاط وحتى المعلم كمال جنبلاط، هذه الكوفية الّتي استثقلت الطغاة من المستعمرين والصهاينة، واستثقلت أيضاً وطأة نيرهم على عاتق الانسانية جمعاء لا عاتق الفلسطينيين والعرب والمسلمين وحدهم. هذه الكوفية استكرهت وأنكرت على مدى التاريخ القديم والمعاصر، كأس الصهيونية وعملائها، تغرف من مستنقعات الشر، وتدور بها في أروقة العالم. إنها كوفية الجنبلاطيين الملتحمة بأجسادهم مع أجساد مليونية القدس والزحف إلى الحدود في الجمعة الأخيرة من رمضان هذا العام . إنها كوفية الوجه الآخر للإضطهاد والاحتلال.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”