مجتمع البستنة

د. قصي الحسين

بين مصطلحين، “دولة البستنة” و “مجتمع البستنة”، فإن الإجابة، كما أتوقع، ستكون ذات شقين: 1- ففي الشق الأول، يكثر الحديث عن طغيان الهوس والوسواس القهري، لفرض إنتاج النظام العام في البلاد، الذي يضع الأمور في نصابها، ويقوم بعملية هيكلة القوانين، ويرعى تصنيفها وترتيبها وتطبيقها، والفصل والوصل، وإحتساب الناس، في مواضعهم وإداراتهم، والأجهزة التى تتحكم بهم. غير أنه في كل مرة يتم فيها إنتاج النظام العام في البلاد، سرعان ما نواجه بإنتاج متزامن، شئنا أم أبينا، لأناس لا يستطيعون التكيف مع النظام المستحدث. وهم بالتالي يعجزون عن الإنضواء “في إطار” للنموذج الجديد ، وربما لا يرغبون في ذلك. وهذا ما يستولد فعلا آخر، يحتوي على عناصر دماره. وهذا الأمر ربما لا يخطر ببال المؤسسين لدولة البستنة ومجتمعها. إذ يظلون على مشروعاتهم، بينما الماء تجري تحتهم ولا يشعرون بها. 2- أما في الشق الثاني، فإن فلسفة البطش والطغيان والهيمنة؛ والمستحكمة خصوصا في إيديولوجيتها، أو في إديولوجيات خاصة بها، والتي ربما تخترق المجتمع والدولة بطريقة “بالغة النعومة”، فإنما يراد بها، لتروج لغائية جعل الحياة عملية ومريحة. ولأجل ذلك، يذهب أصحابها للقول، بالتخلص من الأشياء المزعجة وغير المريحة وربما غير المفيدة، إستنادا للقاعدة المأثورة للرئيس بشار الأسد: “سوريا المفيدة” و”سوريا غير المفيدة”. ويعني ذلك التخلص من بعض الناس، أو من بعض المجموعات من الناس، أو من بعض أنماط حياتهم، وربما التخلص أيضا، من بعض أنماط الحياة البشرية.

ويبدو أن بعض الأنظمة، وكذلك بعض القادة والحكام بشكل عام، يتصرفون وكأنهم في “مجتمع البستنة”، أو في “دولة البستنة” لا فرق. وهم يظنون أنهم بهذة الطريقة في التفكير، ربما يصيرون أقرب من خط الوصول إلى غاياتهم في السباق الدؤوب لتحقيقها. إنه هوس الطغيان الذي يتعارض مع ما يتحدث عنه” إيمانويل لفيناس”، من أن” للدولة والمجتمع، واجبات أخلاقية تجاه الناس، ويجب أن نهتم بهم”. وأن حصرية الإهتمام بربحية الطغاة وتجار السياسات، إنما تفرض عليهم القيام بأشياء مثيرة للإشمئزاز، ولا تساهم بشكل مباشر في خلاصهم. فهاجس الطغاة، في جميع المواقف والإنطباعات والحشد والتأييد، والإضافة إليها وتكديسها، إنما هو إشكالي، ويتطلب المراجعة، حتى ولو من الطغاة أنفسهم. تحدث ميشيل فوكو أيضا، عن ” المثقف المختص”، الذي يوكل إليه أهل السلطة مهمة التمايز عن المثقفين. وسرعان ما يتآلف في طبقة المثقفين المختصين. وهم أشبه بالشيوخ الجدد الذين توكل إليهم السلطة، التمايز عن طبقة الشيوخ، لأجل مصالحها. ويقول فوكو ” إن هذا هو الشكل الجديد الذي يتخذه الصراع القديم من أجل السلطة والهيمنة. وأما الإختلاف بين المثقف التابع لدولة البستنة؛ تلك المؤسسة لمجتمع البستنة، وبين غيره من المثقفين والمواطنين، فإنما يجعله يبيح لنفسه تجاوز حدود وظيفته، فيتحمل جميع الشؤون المجتمعية، بالأستناد إلى قوى السلطة التي تعضده. ولهذا ” فالمثقفون المختصون”، باتوا يمثلون تناقضا لفظيا ومعنويا ظاهرا للعيان. وهذا ما جعلهم يتخطون المجال الضيق الذي يوفر لهم، مصالح شخصية من حيث الدخل والإمتيازات. فنراهم يتباهون مثلا، بتحمل مسؤولية البلاد، وهم في الواقع، “كجراد السنبل”، الذين تحدث عنهم الشاعر خليل حاوي، يقومون بأكله وبتدميره في آن.

هل نتحدث أيضا عن الكتب التي يكتبها المثقفون المختصون، ولا يقرؤها أحد. أو عن مجلاتهم ومقالاتهم التي لا نراها إلا في الحاويات. فالمثقف في المجتمع، هو الذي يشير إلى الإحتمالات الممكنة للمستقبل، دون أن يكون محابيا للحكام، أو بوقا للسلطات أو الأجهزة. لكننا لانسمع أيا من هذة الأصوات، ولا نرى أصحابها، إلا في القليل النادر. في دولة البستنة، كما في مجتمع البستنة، نعرف أننا نسير على الحبل، ونعرف ما نريد التخلص منه، دون أن نعرف المجتمع البديل أو الدولة البديلة عن البستنة. فنحن نتجنب الحديث عن أسس “المجتمع الجيد”، لأننا لا نقوم إلا بردات فعل، إزاء الأزمات. وكأن المطلوب أن نعيش تحت طغيان الزمن. فالأزمات تتابع بسرعة بالغة. وقبل إيجاد حل للأزمة الأولى، نجد أنفسنا أننا قد بدأنا نغرق في الأزمة الثانية. وهكذا دواليك. إن تجربة” محتجي الساحات”، من المجتمع المدني أو من التنظيمات السياسية الإحتجاجية، والتي عايشناها، كانوا يذهبون إلى ساحة رياض الصلح أو إلى ساحة سمير قصير،أو ساحة الشهداء، أو ساحة الأونروا أو إلى أي مكان، ويتجمهرون فيه، ويلفتون الإنتباه إليهم، ويتظاهرون ويصرخون، ويوقعون العرائض، للتأثير في مجتمع البستنة، ويعتبرون ذلك مشاركة سياسية منهم، في تشكيل “قوة ضغط”، وهم لا قائد لهم. إنهم يفتقرون إلى القائد الذي يرسم الحدود بين “هم ” و “نحن”. ناهيك أن هؤلاء المحتجين، قد أتوا من مستويات معيشية مختلفة، سرعان ما تفرقهم دولة البستنة، فيتبددون، كما ألوان قوس قزح، بالقوة الطاغية: المالية والإستخباراتية والخدماتية معا في آن.

هناك غرابة حقيقية يعيشها اللبنانيون اليوم، بعد مضي ثلاثة أرباع القرن على الإستقلال: إنعكاس الرؤيا في جانبين أساسيين من حياتهم: الحرية والأمن. وهما قيمتان أساسيتان تشكلان حياة اللبنانيين الإجتماعية والسياسية. فقد نشأت الأجيال منذ نصف قرن على طلب المزيد من الحرية، مقابل التخلي عن بعض الأمن، وذلك لأجل الحصول على مزيد من الحرية. أما منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، فباتوا مستعدين بالفعل، للتخلي عن بعض حريتهم من أجل الإفادة من المزيد من الأمن. وهذا ما جعل “دولة البستنة” تطرح المعادلة المقلوبة التي كان يرفضها اللبنانيون سابقا: تحاشي المتطلبات الحياتية التطويرية للمجتمع مكرهين، ومقايضة ذلك بتوفير الأمن المحلي. كأن الإهتمام بأمننا المحلي بات يحتاج إلى خطط خمسية وعشرية، للأسف، منذ إنحسار مشروع الحركة الوطنية اللبنانية، والإستعاضة عنه، بإتفاق الطائف. وباتت المعادلة كالتالي: أن نحرم أنفسنا جزءا من ذواتنا، بدل حل المشاكل، والتحول طواعية أو بالإكراه، إلى الحلول المنافقة والمطمئنة. تلك التي ظهرت في النهاية، أنها حلول قاصرة، ليس تحتها أية بنية تنموية أو تطويرية أوتحديثية للجمهورية.

إننا إذ نتغنى بالإستقلالية وحب التواصل، لكننا لا نتحدث في المقابل عن جرف الناس وحرمانهم من سبل العيش التي تعينهم على البقاء. ولا نتحدث أيضا، عن التصدع الذي أصاب مجتمعاتنا، وأفرغ المواطنة من محتواها،فتكاثرت عليها، مناهج الأقصاء والتهميش والإبتزاز. وأمام الجشع المالي العابر للحدود، يمثل مشهد المهمشين والمعدمين والمعوزين، في حالة سقوط حر. مما يعد وصمة عار في الجبين، يؤسس لمبدأ التقاعس عن المبادرات الإنقاذية، التي تعرف بها الدول الطبيعية. نخلص للقول: في دولة البستنة، وفي المجتمع الخلفي لها، هناك فئتان: السياح والمشردون. لندع الحديث عن الشريحة الأولى،لقراءة أخرى. أما في النظر في أحوال الشريحة الثانية، فنحن نتعامل معها كنفايات بشرية، قادمة من المجهول، لتحل في فنائنا الخلفي، فتثير مخاوفنا.فتسارع دولة البستنة، بأجهزتها كلها، لتأكيد سيادتها. وتمارس عليها السياسة الربحية، بعمل شيء ما ضد الجريمة. وتبث الكميرات لمراقبة الشوارع. وترفع التحصينات حول المراكز والدور والقصور وأمكنة العبادات، والساحات والأسواق. وتزيد من العديد والعتاد. وتطور مراكز الإحتجاز وتوسع السجون. كل ذلك على قاعدة من الإغداق في الإنفاق،،وبالتالي على قاعدة من “المراقبة والمعاقبة” المستمرة. فهل نحن قادرون على تخيل مستقبل مختلف عما نحن عليه اليوم. وما هو السبيل إلى فضح العقل المادي في دولة البستنة أم في مجتمع البستنة، وإستعادة إستقلالية التواصل، بالعقل العلمي البحت.

لعل أقسى ما يعانيه اللبانيون اليوم، هو مظاهر التفرقة، وإنعدام الأهلية الإنسانية والإجتماعية التي تميزوا بها، قبيل حقبة الإستقلال وبعدها إلى حين. ونحن نشير في ذلك أولا بأول، إلى ما يعتري حرية التنقل من تناقض صارخ، منذ الربيع العربي. فالحدود مفتوحة أمام البعض، مدججين ومبشرين ومنظمين. وهي موصودة بقوة أمام المهجرين والمشردين واللاجئين والنازحين. وربما عملت الإقامة القسرية على إطالة التبعات، ذات الطبيعة الإنتقائية، لدولة البستنة ومجتمعها الذي تنتظمه. فهناك فئات محرومة ومحصورة بأقليم، وهناك حدود مفروضة لا يمكن تجاوزها، ولو داخل الإقليم. ولهذا يبرزالتحدي الأول، بالأفتقار إلى حرية التنقل. مما يؤكد أن المعضلة ليست جغرافية بحتة. وأن مقومات الحياة الإجتماعية، في مجتمع البستنة، ليست متكافئة في الأساس. مما يرتب أشكالا جديدة للعنف الناجم عن التمييز والأقصاء والتهميش. ووفاقا لمنطق الإسقاط الإنساني والأخلاقي والسياسي الكارثي، يرتبط مصير الناس بمجتمع البستنة، مقبلين على قبوله، ولو مكرهين. وفي بيئة كهذة، يجد الناس صعوبة في المواكبة والتكيف مع التعقيدات. بالإضافة إلى أن النظرة للآخر، تتأثر بذلك حكما. ويصبح الغريب، مثارا للريبة والشك والإنتقاص. والأقسى من ذلك، أننا في مكان ما، نشجع على مبدأ المرونة. في حين أننا نعمل على تقييد الحريات، من خلال تبني سياسات أكثر صرامة. وهذا ما يؤثر على فضاءاتنا الإجتماعية والسياسية، مما يولد العنف المستدام، بدل التنمية المستدامة، والذي يرتبط إرتباطا وثيقا بإستراتيجية دولة البستنة من جهة، وبمجتمع البستنة، كفناء خلفي لها، من جهة أخرى.

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”