كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!
د. قصي الحسين
15 ديسمبر 2018
في مئوية كمال جنبلاط، نشرت مجلة الفكر التقدمي، محوراً خاصاً بهذة المناسبة (العدد٢٧- حزيران٢٠١٨)، صدرته بمحاضرة للمعلم الشهيد وعنوانها: “رسالتي كنائب”. وهي المحاضرة الأولى للندوة اللبنانية، الناشئة آنذاك، والتي أقيمت في ١٨تشرين الثاني١٩٤٦. أرادت أن تضع من خلالها، خارطة طريق لكل نائب أنتخب للمجلس النيابي عهدذاك. وسأتوقف عند ما أسميته “برهة كمال جنبلاط”، التي التقطها الصديق المهندس الأستاذ محمود الأحمدية، مؤسس جمعية “طبيعة بلا حدود”. ويتمثل جوهر هذة البرهة بحسب رأيي، في النقاط الثلاث التي أثارها المعلم البيئي في رسالته الأولى، كنائب: ١- أن الديمقراطية، كما أوضحها، إنما هي صورة لمدنية معينة لا تنفصم ولا تنفصل عنها”. أي أن الديمقراطية هي وجه المدنية المعينة الموصوفة. فلا تكبر ولا تصغر عنها. بل تكبر معها وتصغر بصغرها. وكلما عظمت المدنية في مجتمع أو في بلد، كلما عظم وجه الديمقراطية فيه. ٢- ويربط المعلم المدنية بجوهرها: في الجوهر لا يمكن لمدنية أن تنفصل عن تراث بشري غني بناء وحقيقي. إذ تراث الإنسان في حقله وعمله وفي معمله، هو جوهر المدنية اللصيق بوجهها، أو صورتها الديمقراطية. ٣- وأما ثالوث المدنية والديمقراطية، فهي الحقيقة الواحدة المؤسسة عليهما معا، إذ يقول: “الحقيقة واحدة، وكذلك المدنية واحدة في النهاية في جوهرها، وبالنسبة إلى أنها تعبير عن هذة الحقيقة. “فيمكن أن تقوم مدنيات في العالم، تختلف من حيث الشكل، لا من حيث الجوهر، هي أشبه بعائلات أو جامعات أو رابطات روحية كبرى. كل منها تعبر، ضمن نطاقها ورسالتها، عن الحقيقة البشرية الخالدة”. وإذ يقرن المعلم الحكيم، بين الديمقراطية والمدنية والحقيقة البشرية الواحدة بتراثها البشري الغني، كما يقول، فإن كتاب “كمال جنبلاط البيئي، سابق لعصره” للمهندس محمود الأحمدية، إنما يلتقط هذة البرهة الرؤيوية لكمال جنبلاط، ويجعلها في تضاعيف كتابه الموسوم، مفتتحا مقدمته بقوله: أن نكتب عن كمال جنبلاط مسؤولية كبيرة… قامة تاريخية حجمها بحجم هذا الكون، بشموليتها وإبداعها وتنوع مواضيعها. فكر إستقرائي نابه قبل نصف قرن لمصير الأرض والإنسان”. ثم يقرن كتاب المعلم “أدب الحياة”، بمئات الكتب البيئية، فيراه أريج هذة الكتب جميعا. ويخص بالذكر منها كتاب ” الربيع الصامت” للكاتبة الأميركية راشيل كارسون، تتحدث فيه عن المدنية ومخاطرها على التوازن البيئي. وهذا ما حدا بالرئيس الأميركي نفسه، نيكسون، أن يشكل لجنة لمتابعة تفاصيل المخاطر التي تشكلها المبيدات والنفايات ومصانع السموم، على حياة النباتات والحيوانات، تلك التي تقتل البشر والشجر. وأن برهة كمال جنبلاط، كما يقول الأستاذ أحمدية، قد طرقت أوساط آسيا وإفريقيا، وبلغت آذان أوروبا، وهزت أعمق الأعماق لدى علماء أميركا، خصوصا حين ميزت الجامعات والأكاديميات بين كلمتي: صحة وبيئة، كما يقول المعلم كمال جنبلاط.
في مئة وسبعين صفحة تقريبا، يقع كتاب “كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره” للأستاذ محمود الأحمدية. وهو يتمحور حول برهة كمال جنبلاط التأسيسية الأولى، تلك البرهة الرؤيوية التاريخية الكاشفة، في الديمقراطية والمدنية والتراث البيئي. وقد حوى زهاء أكثر من أربعين نقطة ضوئية. أنار بها المؤلف، بإبداعاته ومقالاته ونصوصه وخاطراته، على جوانب هامة، من حياة معلم الأجيال وملهم الأعلام والرجال، الشهيد كمال جنبلاط، رجل الأزمنة كلها في لبنان، أن شاهدا أوشهادة أو شهيدا. ولا غرو، فهو الذي يقول، أن كتابه يضم ثلاثة أقسام: 1- قسم أول، يقارب فيه كمال جنبلاط للبيئة وكوكب الأرض. 2- قسم ثان يقارب فيه كمال جنبلاط أوجه الحياة وإنعكاسها على الناس. 3- قسم ثالث، يقارب فيه كمال جنبلاط مشاكل البيئة في لبنان ونظره في معالجتها. مسلطا الضوء على المؤتمرات العالمية التي واكبها القائد، والتي إستبصر فيها ومن خلالها رؤى عالمية للبيئة. وإنها لهنة، ندت عن المؤلف، فلم يعمد إلى تبويب الموضوعات الأربعين الهامة، التي طرحها، فيما تصلح أن تقع فيه من هذة الأقسام الثلاث التي تشكل برهة كمال جنبلاط العلمية الرؤيوية للأرض وللإنسان. بدأ الصديق الأحمدية كتابه، من برهة الشهادة والشهيد في ١٦أذار. نظر إلى بدنه الشاسع المثقب بالرصاص، وكأنه بدن أمه الأرض، تنبت في ثقوبه شقائق النعمان. فصرخ قائلا: من أين أبدأ؟ أي زهرة فواحة سأقطفها؟ وعن أي بعد ورؤيا سوف أكتب؟ ثم تتداعى بل تتراص في نفسه، مداميك القلعة الجنبلاطية: كمال جنبلاط المفكر، كمال جنبلاط الفيلسوف، السياسي، الإجتماعي، البيئي، العالمي، الكيميائي، المتصوف، الرحالة، الأسطورة، الشاعر، الناثر، الثائر، الإشتراكي، العروبي، الثوري، صاحب الحدث الإعجازي في مجال البيئة، قبل نصف قرن من الزمن. عملاق الكلمة والرسالة والوعي والهداية، ومستقبل الإنسان المدني الحضري التغييري، جوهر الوعي بالوجود. مواضيع جمة، ضوأ بها المؤلف الأحمدية، على تجربة “رسالتي كنائب” لكمال جنبلاط العام ١٩٤٦. كأن الرسالة، كانت تستقرئ المستقبل كله، فأراد مؤلف كتاب: “، كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره”، أن يقرأ عوالم جنبلاط كلها: شاهدا وشهادة وشهيدا. ولشد ما يعجب القارئ لمحمود الأحمدية، كيف إستطاع أن يبدع الإنسان البيئي في إبداعات كمال جنبلاط البيئية. حقا، وجد فيه البيئي الذي حاز قصب السبق، والبيئي الإعجازي والإستقرائي، وصاحب الرؤيا البيئية المتكاملة. ووجد في كتابه: “أدب الحياة”، أدب الإنسانية كلها، بالنسبة للطبيعة الخارجية. ووجد في كمال جنبلاط البيئي، الرؤيا المتقدمة قبل ربع قرن، وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد. ووجد فيه أيضا وأيضا، الرجل المواجه للحضارة الغربية النافثة للسموم والمدمرة للإنسان. قرأ في كتابه: “العلاج بعشب القمح”، وكتاب ” البيئة والغذاء”. وقرأ في تضاعيف كتبه الأخرى، ما يلامس عقله وقلبه ولبه، ويجعله في دائرة البرهة التي سكنها، بين عامي الولادة والشهادة(1917-1977) سحابة عمره كله، إنسانا يعلق النور برشة حبره، فيطيح بكأبة السواد والسوداوية، إلى بياض اليوم اللاحق والخضرة الدائمة العامرة بالروح الإنسانية.
ولا غرو، وهو الذي وجد في كمال جنبلاط، فكرا إشراقيا نورانيا دائما، وميلادا للضوء الدامع، والألم الأنساني المشع اللامع، ورجلا رؤيويا يرتقي ببلده لبنان، إلى العالمية، وإلى مساحة خضراء للضوء في ضمير الإنسانية. تماما كما وجد في مبادئه مصدر إلهام للربيع العربي، أقوى من أغتياله. وأكادمية راقية للعلمانية الرشيدة، وموئلا منيفا، لكل مفكر حر ولكل مؤتمر مؤسس للإرتقاء والعمران والبنيان والإنسان. ولا يحاذر الأستاذ الأحمدية، أن يبوح أو أن يشي، بما أخذه عن المعلم التاريخي كمال جنبلاط: الفطرة السليمة في حب البيئة والدفاع عنها. وقد أحفزه ذلك للوقوف على محطات كثيرة من فكر كمال جنبلاط، لمزيد من الإغتناء بأدبه وعلمه وخلقه وآرائه وقوانينه ومبادئه، مما جعله يستلهمه في الكتابة، تحت عناوين كثيرة تشع بالرؤيوية الجنبلاطية الذرية والمذرورة: مثل حديثه عن مؤتمر باريس للمناخ والإحتباس الحراري. وعن فرز النفايات. وعن مصانع الإسمنت والكارثة البيئية في عين دارة وضهر البيدر، وغيره وغيره: مثل مواسم التفاح: العز والقهر. وحرش بيروت واليبوسة. ومجزرة طائر النورس المفجعة. ومطمر الناعمة الكارثة. ونفايات بلدية عبيه المهلكة. وكذلك عن يوم البيئة العالمي، في الخامس من حزيران، وعن مؤتمر باريس ومؤتمر مراكش لتغيير المناخ. وأما مسك الختام، في هذا المقام، فكان: من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت، إلى فرنسا، حيث يقول: ” كما بدأت كتابي مع كمال جنبلاط، وحدسه البيئي، من خلال تبني فرنسا لنظرية الخضرة والفاكهة العضوية، مما يثبت نظرية كمال جنبلاط عن خطر الأدوية السامة للتخلص من الحشرات، فإنها تدمر الإيجابي منها قبل السلبي. هذة النظرية التي إكتسحت العالم اليوم، إنما هي نظرية كمال جنبلاط البيئي الحكيم، يقول الأحمدية. أجل أن المعلم الحكيم، كان رائدا. وفي الحديث الشريف: ” أن الرائد لا يكذب أهله”. صدقت أخي محمود. في أرض الشوف، في أرض الجبل، في أرض لبنان، كما في كل أرض، إنبتت كمال جنبلاط، بئر تحلم بالحديقة. “وجدتها”، قال المهندس البيئي الأستاذ محمود الإحمدية: كان كمال جنبلاط، تقول، بئرا يحلم بالحديقة وبالحقيقة، معا على حد سواء. وكنت أنت الضوء الباهر في كتابك. تنظر في خريف يصعد الأنفاس. الضوء الباهر في سماء المختارة، العصية عن التدنيس والدنس. ولا شك، أن الأمر يحتاج إلى رجل مثلك، إلى كاتب في مثل شوقك. رجل في مثل عينيك، عازم، يعبر القنطرة، حتى يلامس القباب. والريح الصفيرة التي نشرتها صفحات كتابك، إنما تشي بأنفاس حب عظيم، تبثها لدار المختارة. كم كنت وأنا أتابعك، وأقرأ سطورك المجاذيف كأنها تجري مع الماء في نفسك،كما جري المجاذيب. وإنها لفتلة أخي محمود، أمام عاشقه، كمال جنبلاط، كما فتلة المولوية من أهل الصوفة في حب الله. لا أقول أحسدك، أخي محمود على حبك البيئي، بسطوره العالقة بالينابيع، وبسيد الينابيع، كمال جنبلاط، بل أقول أغبطك. نعم أغبطك على عشقك لكمال جنبلاط البيئي الحكيم. خذني إذن معك لنسكن تحت الدرج، قرب النبع، كما الصوفة، ونحارب الدنيا ونبحر فيها، ونحار فيها. ونشرع عيوننا في الذرى، لهذة الأحلام. نقرب الكون إلى دار المختارة، حتى حياتنا تستضاء. وحتى يدور إصبع الخليقة بلا توقف. ربما تكتب هذا الكتاب، أقول للقائلين فيه قولتهم، حتى يكتشف الأولاد والأحفاد، برعما صغيرا، ينمو فوق كتفيك. وتحت مفاصل الليل يذهبون إلى ضفافك. مهجورة لياليك، هذة الأيام، والريح ثقيلة في فم الوادي. لكن المواعيد ذاهبة معك إلى أطيافها. والنغمة ذاتها، ترن فوق مشارف الأفق. ولو أنك وحيدا سائرا في الليل في وسط الغابات، تقول: سيظهر الكوخ. سيظهر العرزال. وتنشد: “كأن حلقوما مغموسا بالدم، يتسيد حنجرة العالم، هذة الأيام، مهما مر على الدهر، من دهر”.
أستاذ في الجامعة اللبنانية