ضياء تلك الأيام

د. قصي الحسين

يتساءل الأستاذ سمير عطالله، وأنا ممن يتابع كتابه ومقاله وزاويته: “إلى أي مدى يمكن أن يفيد الكاتب من تجربة العمل السياسي، أو الدبلوماسي؟ الجواب السريع: كثيراً”. والجواب المتأني: كثيراً جداً” ثم يتابع قائلاً: في كل ما يكتبه هؤلاء السادة تلمح – وأنا أقول: “تلمع” – أثر التجربة وطريقة التحليل. وقد يختلف السرد والأسلوب” (الشرق الأوسط ص 28).

1- وإذ أقتبس من الأستاذ عطالله، فإنما لأمهد للحديث عما أثاره فيّ الأستاذ خضر ضيا في كتابه المؤثر، وهو الأوّل عنده: “تلك الأيام”، والذي وقعه في قاعة المحاضرات في المبنى الزجاجي للإدارة المركزية للجامعة اللبنانية قبالة المتحف الوطني، على هامش الندوة التكريمية الّتي احتفلت بصدوره وضمت منصتها أسماء لامعة: د. جورج سعادة ود. إلهام كلاب البساط، ود. فريدريك معتوق. فأية رسائل بعثها الأستاذ خضر ضيا لكتابه “تلك الأيام” في المبنى الزجاجي والمنصة الأكاديمية، ووجهتها المتحف الوطني اللبناني.

2- وجدت في تجربة سمير عطالله، ما يصلح للإضاءة على تجربة الأستاذ خضر ضيا وكتابه “تلك الأيام”. وهو الذي سلك دروب التواصل المهني والنقابي والسياسي والأدبي والاجتماعي والإخواني والمناطقي، رغم مشاق هذه الدروب، فكان كسحبان وائل: “فما تكأكأ، ولا تلكأ ولا توكأ، في خطبته من بعد صلاة الضحى، وحتى قبيل صلاة العصر بقليل. وخير شاهد على ذلك كتابه “تلك الأيام”، الذي يقطع الأنفاس، بعناوينه المثيرة ونصوصه الأكثر إيثارة وموضوعاته الجاذبة، لكي لا أقول الأكثر جاذبية، فيخال أخي وصديقي الأستاذ خضر نفسه أنه أعظم جاذبية من جاذبية الأرض كلها. وهذه مبالغة عذبة أحبها ولا أحببه بها، حتّى نرى عمله المقبل الذي وعدنا به، وهو الذي جعل تحت عنوان “تلك الأيام” – الجزء الأوّل.

3- لا أستطيع تجاوز مقدمة د. زاهي ناضر الذي وصف كتاب “تلك الأيام” فقال فيه: “يعد هذا الكتاب انجازاً تراثياً بامتياز” خصوصاً، وأن أجواء قرى الجنوب في “تلك الأيام”، كانت على حد تعبيره “تعبق بأنفاس التدين والقداسة، وتهب عليها النسائم المشبعة بالتاريخ والأساطير وخرافات الجن والعفاريت، وقصص الأنبياء وأولياء الله الصالحين من كل حدب وصوب”، ويشرح د. ناضر قائلاً: “ومن يعرف تعدد المزارات والمقامات، ولكل الأديان والمذاهب، في تلك القرى، يخال إن هذه المنطقة وحدها كانت الأرض المقدسة في نظر القدماء”. إذ يتطلع خضر ضيا لجذب أنظار الجيل الجديد للتعرف على مأثورات الجيل القديم، بأهدافه وخلفياته الوطنية والقومية والفكريّة والفلسفية.

ويعطف الأستاذ هاشم إبراهيم في مقدمته المعطوفة أصلاً على مقدمة د. زاهي ناضر أيضاً فيقول: “في “تلك الأيام” فلاحون، رعاة، أكداس أغلال، أكوام، أمنيات، جرار تتراقص على طريق العين فوق أكتاف الصبايا، زواقيق عابقة بروائح الخبز المرقوق، ومشاطيح التنور، ورائحة البصل والكشك، وبأغنيات المصاطب، عواء الليل، تنفس الفجر، مشوار التعب من الفجر إلى النجر.. وحكايا الغيلان والضباع والأفاعي والجان. والليل كتاب من غير أوراق، يكتب من غير حبر” حتّى جاء خضر ضياء وحبره في “تلك الأيام” ووضع النقاط على الحروف.

4- يستيقظ خضر ضيا في كتابه “تلك الأيام”، التراث الثقافي والاجتماعي والحضاري، قبل أن يطبق عليه غول المدنية الوافدة، ويعدمه الحياة، ولكن ذلك يتم دون تعبد في محراب الماضي، ودون تهرب من مواجهة تحديات الحاضر، بل هي دعوى لشد القوى والسفر عبر الأزمنة السحيقة للعيش في كنف الأسلاف، ومواكبة حياتهم العادية، بما فيها من أفراح وأتراح وعادات وتقاليد واحتفالات ومعتقدات وطقوس وحكايا وأساطير وخرافات، فلا تعدو “تلك الأيام”، سوى احتفالية، بما مضى ومن مضى، وهو الذي عاشها في طفولته وشارك فيها، وأصاخ السمع لأفواه المسنين من مناطق وقرى مختلفة في الجنوب، من ساحل صور حتّى أخماص النبطية وأعالي جبل الشيخ وحرمون والريحان وتومات نيحا. بهدف تأصيل الموروث لا التواطؤ مع الأصولية الثقافيّة أو الدينية، فالشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد. والجاهل يبقى جاهلاً إلى الأبد من لا يعرف تاريخ أمته. إذ اقتد ى الأستاذ خضر ضيا بالحكماء وتفاعل معهم في كتابه الأثير “تلك الأيام”.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”