حين السياسة بمفعول رجعي

د. قصي الحسين

مسبقاً اقول: أنه هو ومن على شاكلته، نجحوا في تحويل مهنة نبيلة إلى سبعة في المئة ضماناً، فلم تعد آمنة. يكفي أن ترى أن موهبته فيها، إنما هي موهبة من يعتلي مصرفاً. وأن أخلاقه أخلاق لابسي الجزم. وأما تصرفاته، فهي تصرفات باشا. حتماً ليس هناك أفضل من أن تجد، ما الذي يجعل الناس تثرثر عليه. يريد أن يقول لك شيئاً، ولكن رأيه يختنق في بلعومه، وأحياناً كثيرة تراه حين يتحدث أصلع كالبيضة هو السياسي الحديث الولادة.

لسنا حتماً معنيين بثرثرة ربات البيوت. ولكن هناك ساعة من الزمن يصبح فيها الصوت: معنى وصورة وكلمة. وأنا أعرف الآن، بعدما كنت أسمعه، أن هذه الساعة سياسيّة. ولذلك تراني أحبها جداً لعدم دقتها.

يقول أندريه نافور: “لا أظن أنه يمكن أن تكون مديراً أو رئيساً جيداً، دون أن تكون شخصيّة جيدة. وأظنه العكس حين تكون سياسياً. وإذا أردت أن تكون رياضياً، فلا بد أن تنهض لرمي الرمح مثلاً. فليس كافياً أن تكون لك ذراع قوية. لا بد أن يكون الجسم كله قوياً. ومن قال إن المكتب مكان كئيب، حتّى تبدو صورته على هذه الشاكلة. إذ الأداء المتميز المتوازن، إنما يأتي من الموازنة بين العمل والترقي فيه لا خارجه. وحياتنا كلها نتاج أفكارنا، لا نتاج حوائجنا، ولا نتاج وهم حاجاتنا.

وأنا أقول لمثل هذا السياسي الحديث النعمة: إذا وجدت أن القلق يحاصرك، فابدأ مشروعاً جديداً أو مشروعاً جيداً. وإذا وجدت نفسك أنك لا تحسن ذلك، فتعلم مهارة جديدة. اِفعل شيئاً تؤمن به، لا تتوهمه. فكر على الأقل في حاجات الآخرين، لا في حاجاتك الشخصية. اشغل عقلك بأشياء بعيدة عن متاعب شخصك، ولسوف تخدم الآخرين، لأن مثل هذا يشعرك بالرضى عن نفسك. وعليك أن تروض مخاوفك وتبث الحيوية والطاقة في حياتك. اقرأ في مبادئ “كاريجني”: 1- انظر إلى الأمور بعيون الآخرين. 2- عبر عن التقدير والإشادة بأمانة. 3- تحكم في قوة الحماسة الرهيبة. 4- احترام كرامة الآخرين. 5- لا تبالغ في انتقادك الآخرين. 6- لتكن سمعتك طيبة، حتّى يقتدي الناس بك. 7- احتفظ بقدرة كافية لنفسك، وحقق التوازن في حياتك.

أحياناً، أشفق إشفاقاً عبثياً على بعض السياسيين الّذين لا يكتبون. لأنهم إنما يعيشون حياة واحدة فقط. فجأة ترى الصمت على وجوههم، حين يتحدثون. كأنهم يؤمنون، بأن خطواتهم العابثة، إنما هي وحدها الرابحة. فانظر فيما يقول هيوم: “إذا أغرتك الواقعية المباشرة، فما عليك سوى دعس إحدى مقلتيك”. وبعض الصور السياسية، إنما تشبه في بعض النواحي الموضوعات السياسية الّتي صور لها. وما على السياسة إلا أن تصون خرائبه وأراضيه. وقديماً قال تشرشل: “إن المسؤولية تجاه جميع أفكارك إنما هو ثمن العظمة. فكل يوم، تعثر فيه على ألم صغير، عاقب به لسانك. فأنت لا تفعل ذلك من أجل التدين ولا من أجل جوع العالم، بل افعله من أجل الماضي الذي ما زلت تحتفظ به بإخلاص مريض. فكل ذلك يحدث لأنك لم تستطع أن تقول عبارة، تحتوي بداخلها نفس العبارة الّتي تحتوي بداخلها نفس العبارة ونفس العبارة. فما بالك بالسياسة الّتي يعيد إليها جمهورها، جميع خطبها، على الرغم من أنها كانت تحتوي على عدد هائل من التوابل التجارية. وربما كانت الفكرة منبثقة من رأس آخر، وقابلت رأسه بالخطأ. إذ يمكن للرجل أن يكون ما يحب، لا ما يحب. واذكر في هذا المجال، قول صفية فهمي لزوجها سعد زغلول بعد عودته من المنفى، حين استقبلته وقالت: “هذا أهم يوم في حياتي. مهمتنا الكفاح وليس المناصب” (الشرق الأوسط 8/8/2018، ص 28). وحذاري أن يضع الجمهور خطاباً يظهر في مجلة “صقيلة” في القمامة، مع من فيها من كبار القوم والقادة والبنكيين والصيارفة في داخلها على التوالي.

وأقول لبعض ذوي السياسة: يجب إهداء ملابس الموتى قبل أن يبرد الجسد. فبعد ذلك تتحول إلى أكفان. فهناك موتى كثيرون منهم، لا ينتبهون إلى أنهم موتى. ويواصلون فعل الأشياء نفسها الّتي كانوا يفعلونها وهم أحياء.

فالسياسة كما يقول أحدهم، تنطق بما لا ينطق به فم الإنسان. والسياسيون برأيي،  هم أصحاب الألباب والعقول الإلهية، فلتقرأ خطابات لورد شسترفيلد لابنه، وخطابات شارل لام إلى كلوردج وسوزي وردسورت وهارليت. لتقرأ أيضاً وأيضاً، قصيدة “العمل” للشاعر الإنكليزي “كوبر”. ورواية ريشاردسون: بامبلا وجزاء الفضيلة. فالسياسات الخالدة، إنما تقوم إلى أمد بعيد على عنصر “ما فوق الطبيعة”. وفي ذلك معنى السياسة حقاً. لا كمن يدعي أن الضخامة هي كل شيء، ثم يوزن نفسه إلى جانب الفيلة، وقد قال زولا: “لي رغبة واحدة، لدى رجل قوي، حار الدم. وكل مهمتي أن أجد الحيوان في هذا الشخص، ولا أرى شيئاً سوى الحيوان” (بين ثقافتين، ص 154). فكيف لك بالسياسي حين يحملك على التفكير به “كجثة حاضرة” أو حين السياسة بمفعول رجعي.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”