ولـيد جنبلاط جبلٌ صغُر عليه جَبَـلُهْ…

أحمد منصور

كلما مرّ الزمن وواكبتُ هذا القائد الزعيم إبن القائد الزعيم أدركتُ بل ازددتُ إدراكاً أنه ليس كالآخرين من طبقة السياسيين في لبنان.

لقد رمته الأقدار ـ دون رحمة ـ في أجيج المعمعة الجهنمية للسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وهو في ريعان الشباب، في بلد يعصو على الفهم، وإنْ لم يعص على الإعجاز.. فكأنك فيه تبقى حاملاً صخرتك ليس في اتجاه واحد وارتفاع واحد ولا على كتف واحدة بل في جميع الاتجاهات لتنهض من جديد تحملها وتمسح دمك الذي يسيح.. فتناجي ربك الذي شاء لك قدرك.. وإنك لا تستطيع أن ترتاح كنّاساً في نيويورك على أن تكون زعيماً وطنياً في لبنان بلد المِحَن الدائمة الذي فيه زفـتُهُ وحجارتُهُ تستمع برشف ومجّ دماء أبنائه ليس من عقودٍ بل من سحيق العهود من آلاف السنين..

لقد عرف هذا الرجل ” قطوعات ” لا تُنسى ولكنه لم يأبه لها فهو على الأرض كما كان والده لا يخشى قدره المرسوم (لا ينفع حذر من قدر) لأن القائد إن لم يكن بين جنوده وأهله وفي عواصم العالم منافحاً مدافعاً عن شعبه فأين يكون ؟

القائد ليس جسداً تخشّب على كرسي قرقة تدرّ له ذهباً ولا يسمع سوى البقبقيـق والبريق..

وليد جنبلاط ليس منزّهاً!! اعتراف جاهر بهِ بشجاعةٍ ورجولةٍ منذ فترة قصيرة فهو يطلب محاكمة الجميع بما فيهم هو لأنهم ليسوا أبرياء من دماء الأبرياء باستثناء إنسان واحد هو المرحوم العميد ريمون إدْه. إنه الرجل الرجل الذي يستطيع بـقّ ما في قلبه وعقله ولا يخاف بعكس غالبية الزعماء عندنا، فهو يُعرِّي نفسه أمام مرآة الحقيقة عوضاً أن يُعرّيهِ الآخرون.. يأكل النبات كما يأكل اللحم وليكن ما يكون..

إنه يرتدي ” البييـر كاردان ” كما يرتدي الجينز.. يطير في الطائرات الخاصة لسـواه كما يسير بسـيارة ” الرينو ” الأثرية التي ما زالت ريحه الحديديه المرنة في تضاريس الجبل والمدينة.

جنبلاط   والمشايخ  يتقبلون  التعازى  بالشيخ  البلعوس (92)
إنه القائد الذي قاتل قتالاً شرساً عشرين عاماً، يدعو إلى السكينة بعد مجزرة إدلب واستشهاد العشرات من أبناء عشيرته وكذلك يفعل الشيء نفسه بعد مجزرة السويداء الهمجيّة التي حصدت عشرات الشيوخ والشبان. وها هـو كالطود الشامخ المتحرك الذي لا ينقصه الحزن يستجمع عشرات الآلاف في دار طائفة بني معروف من جميع أبناء الشعب اللبناني فيرسم صوتياً خريطة طريق للمرحلة القادمة من هذا المنطلق الدموي البربري الجديد الذي التحمت فيه مضرّجةً العمائم البيضاء والأنوف الشامخة المقتحمة أجبنة الشمس.

في لغته الخطابية يسود الإيجاز ( القلّ والدلّ ) لغة الرياضيات في فصاحة ناصعة لا تحتاج إلى تفسير وتأويل. إنه أمير الصراحة حتى ولو كانت ضده أينما كان على الأرض وعلى الهواء.

لقد قسَّم خطبته إلى قسمين: المنطقي والعالمي. ففي المنطقي أو الإقليمي نراه رئة جبل كمال جنبلاط تتوجه إلى رئة جبل سلطان الأطرش اللتين تجمعهما الصدر الواحدة في العشيرة البني – معروفية الواحدة التي قدّها ساطور معركة ” عين دارة ” السيئة الذكر وتوجَّه من العشيرة إلى العشيرة من الوطن اللبناني الواحد إلى الوطن السوري الواحد.

إنها كما قال: ( رسالة تضامن مع شهداء جبل العرب مع الشهيد صاحب الشعار الشهير يا فوق الأرض بكرامة، يا تحت الأرض بكرامة ..) البطل الشيخ وحيد البلعوس ورفاقه، والجرحى شفاهم الله.. كما مع جميع شهداء سوريا العرب من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.. في البراري والقطارات والبحار والسياجات الشوكية الفولاذية.

إن الخطيب يسمع سلفاً أصداء كلماته التي يعرف أنها قد تسبّب له ما لا يريده فيقول بشجاعته المعهودة لاجماً براكين لبنان النائمة مؤقتاً خوفاً من الدمار العام: ” في رسالتنا لا نتحدَّى أحداً .. نحترم جميع الآراء ونقدِّر المواقف والإلتزامات. نظّمنا الخلاف مع حزب الله حول الثورة السورية. هم في موقع ونحن في موقع. نفهم موقف الحزب الديموقراطي اللبناني والأمير طلال أرسلان ولا نريد أن ننقل أي توتّر إلى أي جبهة..”

kamal-jonblat-New1

لكنه يُؤكّد موقفه الذي لا يتزعزع والذي يعتبره منتصراً في النهاية وذلك بقوله: ” والشعب كل الشعب السوري سينتصر عاجلاً أم آجلاً “.. بكلام آخر إن كلامه وطني وطني حتى النهاية، وليس فيه جنس المذهبية والطائفية. ولئن عَرَضاً استشهد العشرات من عشيرته.. فثورة سلطان باشا الأطرش كانت ثورة الشعب السوري كله كما كانت ثورة لبنان عام 1958 وثورة السبعينات اللبنانية في القرن الماضي..

يقول ما يقول لأنه يدري أن اختلاف المواقف إذا احتكم إلى الطوائف والحراب والرشاشات فإنه سيحوّل البلد والبلدان إلى أنقاض. ومن هنا حكمته التي يفهمها القريب والغريب.

هـذا هو وليد جنبلاط الحكيم الذي خرّجته جامعة الحيـاة والمعانـاة والمسؤوليّة.

أما في القسم الثاني الذي يختص بالعالم الخارجي الذي يشاركنا مآسينا فإنه يحيي الموقف الرائد للرئيس الفرنسي والنموذجي للمستشارة الألمانية.. مَـنْ كان ينتظر أن ألمانيا التي عرفت النازيَة والتي شعبها لم يكن مغرماً بغيره من الشعوب إلاّ من زاوية القهر والإخضاع.. ألمانيا هذه تستنهض الفيلسوف ” كانـط ” من قبره، فيلسوف الحكمة والسلام، والحكومة العالمية مرحّبة أجل مرحّبة بجحافل الجائعين والمرضى والحُفاة واليتامى والأيامى ولابسي الخِرق التي تركتها عليهم المراكب والقطارات.. هذا هو مجد النسر الألماني الحقيقي بعينيه وقلبه وروحه وليس في اجتياح وتمزيق أوروبا المدمّر الصاعق في الحرب العالمية الأخيرة. هذا المجد يعود الى ” ميركل ” مُستشارته في الحرب العالمية الثالثة التي لم تكن سوى إقتصادية ( لقد لحق القطار بخجل ولو مُتأخراً ” كاميرون ” رئيس وزراء بريطانيا كي لا تظل الجزيرة جزيرة على هامش القارة المُتجددة وهوامش الأحداث ). مَنْ كان يتخيّل آلآفـاً من الشعب الألماني تتجمّع مرحّبة باستقبال الآلاف من السوريين الهاربين من إنهيار سـدّ العاصي المتجه نحو الشمال؟؟؟ بعد أن استمرأتْ بالكثير من لحومهم أسماك القرش والحيتان في المتوسط الأبيض الذي أحمر غـدا..

soltan-basha-alatrash(1)

إن القائد أخيراً، لم يدعُ إلى حمل السلاح الغريزي بل إلى عودة الناس إلى قراهم وأن يضعوا صورة الشيخ وحيد بلعوس إلى جانب صورة حمزة الخطيب وسورة إيلان إلى جانب صور شهدائنا الكبار في لبنان وجميع شهداء ثورة الأشقاء.. لأنه عاجلاً أم آجلاً وحدها ستنتصر كلمة الحق.

إذا تأمّلنا ما وراء هذه الكلمات القصيرة البسيطة الواضحة، فإننا نرى أن المنطقة مقبلة على كوارث يصعب حصرها وتحديدها، وأن هذا القائد يستشرفها، ففي منظاره عشرون أو خمسون شهيداً ولا الآلاف وعشرات الآلاف لا بل الابادات ومن يدري؟

وما نرى في سوريا والعراق ليس بعيداً عن الأعين..

هذا الرجل مُؤتمن على حياة مئات الآلاف من أبناء عشيرته وسواهم فهل يتركها فريسة للغرائز المنفلتة نحو المجهول؟ وردّ الفعل في تاريخنا المعاصر والقديم أمثلة صارخة من هذا القبيل.

أي إنسان منا لا يمكنه أن يكون مكانه ولا أن يقوم بدوره، فارجعوا إلى عقولكم ودعوه يرى ويهدي ـ هذه هي رسالته ـ فإنه وقدره وهذا هو قدرنـا.

لقد أصبح الرجل حكيماً لا نخاف منه عليه بل من أبناء الذين لا يريدون له إلاّ السقوط والشرّ، والهلاك لهذه المنطقة المنكوبة.