كيف الخلاص عندما ندفنُ رؤوسنا في الرّمال؟

أحمد منصور

لقد أعادتني باريس إلى بيروت بعدَ طلاق ٍنافَ على الأربعين عاماً. كانت بيروت ساحة العرب الفكريّة التي ليست بعيدةً عن العالميّة. فللسياسةِ جمهورها وللشعرِ جمهورهُ وللعروبةِ أهلها وللشرق ِوالغرب مناصروهما وللفنِّ روادهُ وللأحزابِ نجومها وللصحافةِ عمالقتها. كانت بيروت أمَّ الحقوق عروس الشرق بورصة الإبداع في المنطقة.

أمّا الآن بعدما أصبحنا في عصر الماكدونالد فالأفضل أن ننسى كليّاً الماضي الذي ليسَ بعيداً حتى لا نقاطعَ الحاضرَ تماماً إلى غير رجعة.

تذهب إلى سماع المحاضرات في الجامعات والسفارات والمراكز الثقافية والأندية فتُضيع دائماً وقتك وتثير الشك بمعلوماتكَ السليمة ولئن كانت متينةً راسخةً كأعمدة بعلبك، فكثيرون لا يعرفون القراءة العربية السليمة ولا المعلومات اليقينيّة. تسمع مفكرين فإذا هم موظفون ببغاوات يتكلّمون عن الحريّة وهم في الوقت نفسهِ سجناء الأنظمة والدول وخزائنها. هذا طبيعي لأنهم في وطنهم الثاني لبنان.

تذهب لتسمع فإذا الجمهور شلل وبؤر وزمر أو مواشي مسيسة. وأناقة الملبس تُنسي الكثيرين فوضى الأفكار والمعلومات والسطحيّة وقطار الإنتماء الذي لا يحيدُ مليمتراً عن سكتهِ. أساتذةٌ – بمعظمهم – لا أدري كيفَ غدوا أساتذة، ودكاترة في – غالبيتهم – لا أدري كيفَ تدكتروا ليتعنتروا على المنابرِ كما نرى.

تأتي إلى محاضرة تحتَ عنوان أحد الأعلام المؤرخين في فرنسا أو سواها فيبقى المحاضر طيلةَ ساعة سارداً سيرةَ حياة المؤرخ التي قد لا تعني الكثير في معظمها. فالسيرة هي مدخلٌ فقط كالباب إلى منزل أو إلى قصر. فلا يذهب إلى مراجع فكر الرجل وإكتشافاتهِ وتميّزهِ عن سواه في نفس الموضوع، ونقد منهجيتهِ والنتائج التي توصّل إليها مقارنةً بمن عاصروه ونافسهم ونافسوه. تنتهي المحاضرة كأنا لا أكلنا ولا شربنا. أضعنا ساعاتٍ إنتقالاً ومالاً ولعنّا أبجدية اللياقات الفارغة التي لا تُغني ولا تُسمن. وأنكى عندما تضطر أن تشتري حياءً كتاباً لا حاجة لكَ به يوقّعهُ المحاضر.

ننتقل إلى محاضرات السفراء هناكَ بعض السفراء كالسفير الذي يُتقن لغة الضاد ويتميّز بحضورٍ مُتميّز وأناقةٍ ساطعة إلاّ أنّهُ سفيرُ نظامهِ الروسيّ لا يخرُجُ عن توجيهاتِ دولتهِ التي تبني سياستها عليها بموجبِ مصالحها. وهنا المشكلة الكبرى بالنسبةِ لشعوبنا ومثقفينا إذْ المعطيات مُقدّسة والإنسان شغلهُ الشاغل خدمة الإنسان من أيّ لونٍ كان. مع العلم أنَّ كل مسؤوليّ روسيا حالياً كانوا مسؤولين في النظام الشيوعي السابق.

لقد طرحتُ عليهِ سؤالاً محدّداً: سعادة السفير كلّنا نعرف مستوى العلاقات بينكم وبين النظام السّوري. فبمخابراتكم المعروفة بمعرفتها وقدرتها في المنطقة وتفوّقها تعرفون كلّ شيء. في فرنسا مثلٌ يقول: ” السلطةُ هي الإستشراف “. فلماذا إذاً لم تنقلوا توقعاتكم ونصائحكم وتوجيهاتكم لأصدقائكم السوريين كي لا يعرّضوا شعبهم لمجازر وخراب لم يعرفوها منذُ أكثر من ثلاثة عشر قرناً من عصر الأمويين؟

رغمَ براعة السفير إلاّ أنّهُ أخذَ يحور ويدور متحججاً آناً بالإخوان المسلمين في سوريا أو سواهم وعدم الثقة بهم أو بغيرهم من المعارضين فيما إذا توصلوا إلى الحكم…. لقد همسَ في أذني أحد القادة السياسيين المخضرمين في لبنان: ” السفير تهرّبَ من الإجابة فلا تُصر “

بعدها جمعتني محاضرة بالسفير المصري. (والمعروف عن وزارة الخارجية المصرية أنّها مدرسة أصيلة مشهورة في تخريج الدبلوماسيين) فقلتُ لهُ: سعادة السفير إنا سعيدون بوجودكَ بيننا وبذكائك ونحنُ من الذين عرفنا مصر وأحببنا مصر، والمعروف عن الشعب المصري تجانسهُ ومسالمتهُ وأقدميتهُ في ممارسة الدولة (قد يكون الأول) ومصر هي القلب وأمّ العرب. فما يجري فيها من مجابهات بينَ الدولة جيشاً وشرطة من جهة والأخوان المسلمين من جهةٍ أخرى ليسَ من مصلحة مصر سيّما أن الجماعير الشعبيّة التي أتت بالرئيس ليست في المعركة كحرسٍ للثورة وللشعب وللمؤسسات وهذا ما سيضعِفُ الجيش وينزّل معنوياتهِ ويحيّدهُ عن معاركهِ الأساسية. وهذا ما لم يقع فيهِ الخالد القائد جمال عبد الناصر. أجابني على الفور: باين إنك بتشوف ” الجزيرة ” أي قناة الجزيرة الفضائية أجبت مباشرةً: بس أنا معنديش تلفزيون.

السفير ذكي مثقّف ناضج أجابَ كممثّل نظام لكن برأيي ما زالت مصر في المحنة والخسائر تكبر من الجهتين والمحاكمات والإعدامات قد تولّد نتائج خطيرة. ناهيكَ عن سياسة مصر تجاه قطاع غزّة التي أخذت مع الأسف تضاهي سياسة إسرائيل، وهذا ما لا يقبلهُ المصريّ والعربيّ والمسلم. لا ينقصُ مصر لا رجال سياسة كبار ولا مفكّرون. على مصر أن تجد تعاقداً جديداً يُتيح حقّ المواطنة القائمة على الديمقراطية لكلّ مصريّ لكن ضمن القانون. فوجود السلاح بينَ الناس والقتل والتعذيب وأحكام الأعدام لنْ توفر الأمن في مصر الذي هو قاعدة السياحة والعمل والإنتاج والتفرّغ لمعالجة أمراض مصر المزمنة والأمراض الجديدة المتفشّية التي تهدد كينونة المحروسة أرض الكنانة.لا يمكن أن تبني عنمارةً إنْ لم تكن مركّزةً كما يجب على أحجار الزوايا، ومصر هي حجر الزاوية الأساسيّ بالنسبةِ لنا كعرب. إنَّ مؤامرة الغرب وإسرائيل على مصر لا يُدركها خيال فكيفَ ستجابهها وهي في حالة ضعضعة وقتل ومحاكمات وإعدامات.

مصر إذاً بحاجةٍ إلى ديمقراطيةٍ مدروسة وكذلك العرب. يجب إشراك الآخرين والشورى مع الآخرين وإعطاء فرص جديدة للآخرين. فالسجون لا تبني حضارات وكذلك القتل والمطاردة، فالمصريون طيبون ينسون بسرعة فالحسنات تطردُ السيئات.

مصر بحاجة لرجال يتصوّفونَ لعبادتها لأنّها بحاجةٍ إلى سلسلة من المعجزات، إلى أناس ليس السلطة للسلطة بلْ للشعب والمستقبل. وكلّ يوم ٍيمرّ دونَ التوجّه إلى هذه ِالبوصلة سيكون خطراً على أرض الكنانة والمحروسة من أبنائها المبصرين.