مراجعة للنبض المسيحي تجاه رفيق الحريري

جليل الهاشم (المستقبل)

في الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لا بد من التوقف عند العلاقة المميزة التي نسجها الرئيس الشهيد مع المسيحيين، قيادات وشارعاً.

لم يتعرّف المسيحيون بعمق إلى الرئيس رفيق الحريري قبل توقيع وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. صحيح أنه ربطت الراحل الكبير آنذاك ببعض من رموزهم الزمنية والروحية علاقات ومعرفة، إلا أن اسمه كان ضبابياً في الشارع المسيحي.

مع تبوؤ الرجل مسؤولياته الحكومية للمرة الأولى، ازدادت هذه الضبابية وارتفعت الى المستوى الأعلى في ظل ظروف قاسية واجهها المسيحيون، وقد أنهكتهم مرحلة الوصاية السورية أمنياً وسياسياً واقتصادياً.

هذا الأمر خلق جواً من الالتباس في فهم المسيحيين لما يجري من حولهم، فطرحوا تساؤلات عدة، لا سيما من قبل البطريرك نصرالله صفير ومجلس المطارنة الموارنة، حول دور تهميشي مضاف متأتٍ من الشريك المسلم وقد تحوّلت بكركي يومها الى جانب موقعها الوطني، مرجعية سياسية – مسيحية مع تغييب وإسكات القيادات الزمنية للمسيحيين.

كان الرئيس رفيق الحريري قد حفظ للبطريرك صفير دوره الرائد في تشجيع المسارات الآيلة إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب. ولا يخفى على أحد مساهمة كل من الرئيس الحريري والكنيسة المارونية في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف. فالأول ذلل العديد من الصعوبات أمامه ورسم العديد من الثوابت الوطنية التي تضمّنها الاتفاق، والأخيرة نظرت إليه على أنّه «مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته«.

ورأت الكنيسة كذلك أنّ هذا الاتفاق «يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منه أساسًا للشرعيّة« والميثاقية، على ما جاء في المجمع البطريركي الماروني الثاني.

لم يعتب الحريري على بيانات بكركي، حتى تلك التي انتقدت حكوماته. على العكس من ذلك، كان يحرص على تبديد الهواجس بقدر المستطاع، حاملاً من جهة همّ إبعاد سلطة الوصاية عن التدخل في كل شاردة وواردة، ومن جهة أخرى تثبيت وحدة الوطنية والقيام بلبنان.

أقام الرئيس الحريري، الحوارات المباشرة والمطولة، والكل يذكر «مثوله« أمام سيل الأسئلة الموجهة اليه من قبل مجلس المطارنة في خلوات مغلقة. فهو كان يصر على طمأنتهم بقدر ما كانت تسمح الظروف، يثني هو على عملهم الوطني ويتلمسون هم تشجيعه «الدبلوماسي« بالمضي قدماً في ما ينشدون، في حين لم يكونوا بطبيعة الحال بحاجة الى تشجيع. لكن، في تلك المرحلة الصعبة والشاقة، قلة تدرك كم كان بالغاً وعميقاً في تكوين قناعة لدى الكنيسة المارونية بما هي تعبير عن الوجدان المسيحي، أن مسلماً كبيراً من وزن الحريري يأتي اليهم ليناقشهم ويجيبهم.

الكنيسة المارونية عقدت عقب اغتيال الرئيس الحريري، مجلساً استثنائياً لأساقفتها وأصدرت بياناً عبرت فيه عن حجم الخسارة الوطنية بفقدان الرئيس الشهيد.

وجاء في بيان مجلس الأساقفة حينها:

«- إن اغتيال المرحوم الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ومن سقط من جرحى في الانفجار الذي استهدفه، إنما استهدف لبنان بأجمعه، لما كان يشغله الفقيد الشهيد من مركز فريد كبير في الحياة السياسية والاجتماعية والوطنية في لبنان.

– لا شك أن ما أخذه الفقيد في حياته من حجم على الصعيد الوطني اللبناني لم يكن حجماً عادياً، وقد اشتهر بما وثق من علاقات دولية شرقاً وغرباً، وما قام به من إنجازات خصوصاً على صعيد إعادة بناء بيروت العاصمة، وما كان يقوم به من نشاطات اجتماعية وأخصها توفير العلم والثقافة لعدد كبير من الشباب اللبناني، مما جعل فقدانه بهذه الطريقة العنيفة خسارة وطنية لا تقدر.

– إن اغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي جاء بعد الاغتيالات الكثيرة التي أودت بحياة الكثيرين من قادة الرأي في لبنان، ومن بينهم رئيسا جمهورية ورئيس وزارة، يدل على خطة انتهجها النظام الديكتاتوري الذي تعوّد قطع رؤوس قادة الرأي في كل بلد يستهدفه ليبقى الشعب من دون قائد فيستساغ قمعه واستعباده. لقد انتهى هذا النظام حيث كان قائماً، لكنه لم ينته في هذه المنطقة«.

سبق ذلك تسجيل إشارات إيجابية متبادلة ما بين المسيحيين والرئيس الراحل، يقول أسقف أرثوذكسي سيادي بارز، ويضيف مع «الانتقال الى مرحلة من «التواطؤ الايجابي« بين الجانبين امتدت من العام 2000 الى ما قبل الاستشهاد. فتبددت لدى المسيحيين مع الوقت مقولة «أسلمة لبنان«، في وقت كان يشهد الجميع للكيدية التي واجه فيها نظام الوصاية مشاريع الراحل، والتي لم يكن ليكتب لها النجاح يوماً إلا بالتحرر من سلطتها. وتفترض الواقعية الاشارة الى ان المسيحيين كانوا يرغبون في رؤية مواقف أكثر وضوحاً وتشدداً وصلابة من قبل الحريري، إلا أنهم كانوا يتلقّون النصح من رسله والمكلفين بالملف المسيحي بالنظر الى موازين القوى واحتساب الموقف من دون الإغفال عن تسجيل الاعتراض على صيغ كلامية مستعملة من قبلهم بهدف تبريد الأجواء لكن من دون الوقوف ضد الجوهر«.

يقول الدكتور داود الصايغ في هذا السياق: «إن الرئيس الشهيد آمن بأن إعادة تمتين الكيان لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن الشراكة الإسلامية المسيحية، وواجه صعوبات كبيرة في التواصل مع الأطراف كافة لا سيما المسيحية منها بفعل ممارسات سلطة الوصاية السورية آنذاك«. ويلفت الى أنه «قبيل استشهاده وبتاريخ 10 شباط 2005 وفي لقاء في مطرانية بيروت المارونية، عبّر الرئيس الحريري عن ضيقه من هذه الممارسات وعدم قدرته على الاحتمال، حين سأله رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر عما يعوق إقامته اتصالات مع المجموعات المسيحية في الأشرفية حين كان نائباً عن بيروت. وأضاف الحريري قائلاً: ذلك ممنوع«.

ركز الحريري على إرساء علاقة جدية ومميزة وصادقة برأس الكنيسة المارونية، ولم يعترض على لقاء قرنة شهوان. ومع انتكاسة علاقته بالنظام السوري، أشار قيادي مسيحي على المقلب الآخر من الفريق الذي عرف لاحقاً بـ«قوى الرابع عشر من آذار«، في مجلس خاص انه «عمل على الاستقلال من خلال المسيحيين«.

في الظاهر، يجوز هذا الكلام على صعيد التوصيف والتحليل، أما في الواقع، فقد جسد الرئيس الشهيد، معاني الشراكة الحقيقية والتوازن الضروري وأهمية الوجود المسيحي والتنوع في لبنان ودحض مفهوم الأقليات والعددية كسبيل الى عيش الديمقراطية وبناء استقلال ووطن.

لقد غاص الرئيس الشهيد عميقاً في الملف المسيحي، ناسجاً علاقة استثنائية بقداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وقد التقاه مرات عدة وتناقشا في قضية الوجود المسيحي والفاعلية المسيحية والدور المسيحي، زمناً طويلاً سابقاً لما تشهده المنطقة ولبنان اليوم من تحديات وجودية.

لم يرق ذلك أبداً لنظام الوصاية خصوصاً أن الحريري شجع البابا على زيارة لبنان، في حين حاول نظام الوصاية يومها المستحيل لمنع الزيارة، الأمر الذي نظرت إليه بكركي من هذا الباب، من خلال شهادة الخورأسقف ميشال العويط أمين سر البطريركية المارونية حينها، في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة واتهام الدكتور سمير جعجع بها. وفي وقت كان الحريري يتحاشى الألغام ويحاول تهدئة روع سلطة الوصاية تجاه المتغيرات القائمة في وجهها، إلا أنه لم يوفر سبيلاً لإعادة الروح إلى مشروعه الوطني في وصل ما انقطع بين اللبنانيين والعمل على حياكة نسيج مجتمع قائم على الحرية والانفتاح والاعتدال.

صدقت رؤية المسيحيين في أن الاستقلال عن سلطة الوصاية السورية بحاجة إلى قيادة مسلمة مقدامة، تماماً كما كان الاستقلال عن فرنسا بحاجة الى قيادة مسيحية متنورة، الأمر الذي تطلب دفع ضريبة دم غالية ورفع شهادة هذه القيادة على مذبح الوطن. استشهد الحريري ومعه وبعده قافلة من السياسيين وقادة الرأي في شهادة مسيحية – إسلامية مشتركة.

في كتاب «وصيتي الى الموارنة« للخورأسقف ميشال العويط، المؤرخ للوجدان الماروني تأكيد أن «لبنان إما نصنعه معاً أو لا يكون. والعيش المشترك هو لبّ التجربة اللبنانية، وصلب العيش المشترك هو الانتماء إلى مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية على ثوابت ثلاث: الحرية، والمساواة في المشاركة، وحفظ التعددية، وهي ثوابت في أساس تكوين الدولة اللبنانية«.

في المقابل، يقول حافظ إرث رفيق الحريري الوطني الرئيس سعد الحريري في هذا الصدد: «المناصفة بين المسلمين والمسيحيين قاعدة نهائية يرتكز إليها التوازن الوطني وصيغة لبنان«. يضيف: «لقد أوقفنا العد. والدولة التي يرأسها الفراغ هي دولة برسم الانهيار. نرفض الفراغ في رئاسة الجمهورية لأننا من مدرسة تعتبر الرئيس الماروني اللبناني رمزاً للعيش الواحد بين المسلمين والمسيحيين الذي نعلن تمسكنا به أساساً للبنان«.

ويتابع قائلاً: «إذا كانت وصاية آل الأسد على لبنان جعلت رئاسة الجمهورية مناسبة لتخطي إرادة المسيحيين في لبنان، وإشعار المسلمين معهم بالوصاية التامة، فإننا في تيار المستقبل لن نقبل إلا برئيس مسيحي، لا وصاية له إلا وصاية الدستور«.