«وصيّتي إلى الموارنة».. لبنان بين الروحي والوطني

جليل الهاشم (المستقبل)

لست متيقناً أيّ المقاربات هي الأروع في كتاب الخوري ميشال العويط الصادر حديثاً تحت عنوان صاعق «وصيّتي إلى الموارنة»، أهي الروحية أم الوطنية؟

المفاجأة لدى مطالعتي هذا الكتاب، إضافة إلى العرض المبسّط الشفّاف لكن الغارق في الأعماق اللاهوتية والروحية، تلك الحقائق التاريخية والحاضرة التي، بفرادة نادرة وبجرأة مجبولة بصرامة المحبة ومقتضياتها ومسؤولياتها، يعلن الكاتب شهادته حولها. وهي النابعة من انتمائه على ما يقول: «بالولادة وبالإرث العائلي إلى المسيح… وقد أمضيتُ من هذه المسيرة أربعةً وثلاثين عاماً في خدمة الكرسيّ البطريركيّ، ما يجعلني أشعر بالمسؤولية المهيبة الملقاة على عاتقي».

لا يخفي ابن البيت الماروني المتآلف مع البيئة الأرثوذكسية الواسعة والمتآخي مع عائلتين شيعية وسنية في مسقط رأسه في بزيزا الكورة، وهو البيت الذي كان قد شكّل محطّة تاريخية خلال نزول البطاركة العظام فيه، كالحويك وعريضة، في طريقهم إلى مقر البطريركية الصيفي في الديمان، حالة التردّي والانحدار التي أصابت الموارنة واللبنانيين على حدّ سواء بسبب من سقوط روحي وقيمي وأخلاقي ووجداني مريع، وما أوصلتهم أيدي الوصايات والتبعية ولحظات الانتهاز والتلوّن إلى حيث وصلوا، محطّاً للتندر والشفقة والسقوط المدّوي.

تأبّطت ذراع الخوري ميشال كبار رجال الدين والدنيا المحلّيين والإقليميين والدوليين وهم يصعدون درج بكركي، وهو عرف أثر الدنيوي ومكانته في نفوس الكثيرين منهم، وترهّل الزهد والتعفف والترفّع وبعد النظر والحوار، لكي لا أقول الإيمان… فهل قليل ذهابه إلى المكان الآمن في دعوته الموارنة إلى «أن يستعيدوا كرامة قدّيسهم مارون» المفقودة، بسبب تشتّتهم وصغائرهم، كي لا يدعو في الواقع كل المسيحيين وكل المسلمين وكل اللبنانيين إلى الرجوع عن غربتهم وعن كتبهم وأنبيائهم؟!

لا يجلد أمين الأسرار البطريركية الموارنة ولا اللبنانيين. هو سلّط أضواء تاريخية مبهرة على مسيرتهم، فخشع. وعرف ماذا يريدون، فشعر بفرح عظيم. من القديس مارون ابتداء من العام 325، الذي جسّد صلابة الجذور وانفتاح الأغصان جاعلاً الجماعة المتنوعة قلباً واحداً وروحاً واحداً، تبقى الرسالة الملحّة والجوهرية للموارنة تجاه لبنان والشرق عامة اليوم، في الشجرة الواحدة التي تحضن في انفتاح وتعدد أغصانها، عدالة النظم الديمقراطية والمساواة بين الأفراد وقدسية حقوق الجماعات، في أغصان تتآلف ولا تذوب، وتنمو وجودياً وإيمانياً وثقافياً وحضارياً.

على امتداد هذا التاريخ الطويل، يتوقّف الكاتب عند محطات وحوادث ومواقف، متشاركاً مع كلّ مارونيّ، ومسيحيّ، ولبنانيّ، العِبَر الكثيرة التي استخلصها. اليقين هو أن الأمور لن تصطلح إلا حين تتحول السياسة إلى فن شريف في خدمة الإنسان والخير العام. مرّ على الصليبيين وتساءل: أهم أصدقاء للموارنة أم أعداؤهم؟ عرض إشكاليات طروح الغرب. واسترسل في الإجابة عن السؤال الأصعب والأدق: هل لا يزال الموارنة موارنة، قائلاً: «إن ما يحتاجون إليه، هو أن يسترجعوا الروح الذي كان يرفرف فوقهم عندما كانوا يعيشون في يانوح وميفوق ووادي قنّوبين».

من الاهتراء الروحي وانحسار علامات المحبة والرحابة والتسامح والغفران، انتقل إلى الزمني ومنه الى الوجودي الكياني، المتّصل بلبنان وطناً ودولة، عارضاً الأطماع فيه جنوباً وشرقاً وشمالاً، والمصالح الإقليمية والدولية، ومفصّلاً أيضاً ما يتصل ببنية جماعاته الطائفية والمذهبية، فرسم طريق التفاهم واضحاً في كيفية خدمة لبنان. عاد إلى أمثولات ما قبل الاستقلال وبعده، ليصل الى العيش معاً وحياد لبنان والدولة المدنية واللامركزية الموسّعة والشباب والمرأة والانتشار… ودور لبنان في الشرق بحثاً عن أنظمة سياسية معاصرة تليق بإنسانه وبعراقة تراثاته.

وعلى سبيل الوصيّة إلى الموارنة يقول: «شهادتي أن الكثيرين منهم نكثوا بالعهود. ولهذا يتخبّطون الآن في ظلمةٍ دامسة، وفي منزلقاتٍ خطيرة… الموارنة الآن في صميم الألم المسيحي الكبير، ألم الجلجلة… إنهم ربّما يواجهون التحدّي الأشدّ خطورة في تاريخهم كشعب، وفي تاريخ الجماعات المسيحية الشرقية على السواء. إنه تحدّي الوجود. فكيف يواجهونه؟». يجيب: «أن يختار شعبٌ ما طريق الرسل، يعني أن يختار الشهادة… مستلهماً خطى بطاركته وأسلافه الذين عرفوا كيف يقفون في وجه التحدّيات. وعرفوا كيف يخرجون منها راسخين في إيمانهم، أشدّاء في الدفاع عن معتقداتهم وخصوصياتهم، واثقين من مستقبلهم. فليس من دورٍ للموارنة في لبنان، وفي الشرق، وفي العالم، خارج هذا الدور. ولا خلاص لهم إلاّ به».