سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

رغيد الصلح (الحياة)

في خضم البحث عن وسائل وطرق لوضع حد للحروب المدمرة التي تجتاح المنطقة العربية يقترح البعض إطلاق حوارات مكثفة ومشاريع جادة وواقعية حول إعادة إعمار البلاد العربية التي تعاني بصورة خاصة من هذه الحروب. هذه المشاريع والحوارات قد لا تأتي ثماراً سريعة ومباشرة، ولكن الاهتمام بإنضاجها ولو على نطاق الفكر والرؤية يشكل رافداً مهماً للمساعي التي تبذل للتوصل إلى حلول سياسية للحروب وإلى سلام عربي-عربي، وإلى سلام عربي مع دول الجوار، أي تركيا وإيران تحديداً. فالتطلع إلى إعادة الإعمار والبناء ينزع من العقول الفكرة المتشائمة التي تقول أنه ليس أمامنا إلا الانخراط في حروب الإبادة حتى ولو استمرت لقرن أو أكثر، مثل حرب المئة عام بين فرنسا وإنكلترا خلال القرنين الثالث والرابع عشر.

يعقد بعض الذين يتبنون هذا الاقتراح مقارنة ضمنية بينه وبين المشروع الأوروبي الذي ولد كفكرة وكمشروع جاهز للتنفيذ والمتابعة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. من هذه الزاوية قد تبدو العودة إلى المشروع الأوروبي في الظروف الراهنة غير مناسبة. فالاتحاد الأوروبي يعاني اليوم من مشاكل ومن نكسات متعددة، ومن ثم فإن الدعوة إلى التمثل به وإلى الاستفادة من تجربته في غير محلها. ولكن من يراجع المشروع وإنجازاته الكثيرة يجد أنه على رغم عثراته يقدم نموذجاً مهماً لمن يرغب في تنفيذ مشاريع إعمار البلاد التي دمرتها الحروب. وحتى تكون المقارنة جادة وفي محلها، فإن من الضروري مراعاة الاعتبارات التالية التي توافرت في الأوضاع الدولية وفي المشروع الأوروبي فكانت حافزاً لتبنيه:

أولاً: جسامة التحديات التي واجهتها الدول المشتركة في المشروع والداعمة له بعد انتهاء الحرب. يركز العديد من المعنيين بالمشروع الأوروبي هنا على التحدي السوفياتي-الشيوعي الذي كان يثير القلق والمخاوف في الدول السبع التي وقعت على معاهدة روما عام 1957. ولا ريب في أن هذا القلق كان في محله من حيث حجم القوة العسكرية التي امتلكها المعسكر الشرقي، والقوة السياسية التي تمتعت بها الأحزاب الشيوعية في أوروبا. غير أن الخوف من التحديات في الفضاء الأوروبي وحده لم يلخص صورة التحديات الدولية التي كانت تواجه أوروبا والولايات المتحدة. فخلال الفترة التي شهدت إرهاصات المشروع الأوروبي وأيام ولادته، كان الجيش الأحمر الروسي قادراً، كما وصفته تقارير رسمية بريطانية، على اختراق منطقة الشرق الأوسط كما «يخترق السكين الزبدة». وفي المرحلة نفسها تقريباً، كان الاتحاد السوفياتي والأحزاب الحليفة له تنشر نشاطها في جنوب شرقي آسيا بحيث خشي زعماء أميركيون من وقوع اليابان والشرق الأقصى في يد موسكو.

إذا قارنا بين التحديات التي كانت تواجه الدول الأوروبية التي عملت على تنفيذ المشروع الأوروبي، والتحديات التي تواجه اليوم الدول العربية، نجد أن الأخيرة تمر بحال أصعب بكثير من حال دول السوق خلال مراحل تكوينه. إنها من جهة تواجه التحدي الإسرائيلي وحلفاءه وداعميه الدوليين، ومن جهة أخرى تجابه تحدي قوى إقليمية أخرى ترغب في السيطرة على المنطقة العربية وإلحاقها بأراضيها وتبديل هويتها الوطنية. وفضلاً عن التحديات الخارجية هناك تحديات داخلية كبرى تهدد أمن دول المنطقة واستقرارها وتماسكها ومستقبل شعوبها.

ثانياً: إن دول أوروبا لم تكن تملك مشروعاً جاهزاً يساهم في إعادة تعميرها، ولكن آباء المشروع الأوروبي كانوا على يقين من أن تنفيذ مشروعهم الرامي إلى تحقيق الكيان الأوروبي الذي يحقق أعلى درجات التضامن والتعاون بين الدول الأوروبية، سوف يسهّل ويسرّع تعمير أوروبا وتحويلها إلى فضاء سلمي قاري. بالمقارنة كان واضحاً لهؤلاء الزعماء أن تجربة أوروبا ما بين الحربين العالميتين التي خلت من مشاريع التقارب والتعاون القاري الجدي، لم تفضِ إلى تحقيق الازدهار والاستقرار في أوروبا بدليل تعرض اقتصادها إلى الانهيار في نهاية الثلاثينات، أي إلى الأزمة التي أوصلت النازيين إلى الحكم. وبمقارنة سريعة بين الواقع الاقتصادي لأوروبا ما بين الحربين وواقع أوروبا الاتحادية نجد أن معدل دخل الفرد خلال المرحلة الأخيرة فاق أربعة أضعاف هذا المعدل خلال مرحلة ما بين الحربين كما تقول دراسة ج. برادفورد دي لونغ أستاذ الاقتصاد في جامعة بيركلي الأميركية.

إذا حقق الأوروبيون «معجزة» تاريخية في إعادة إعمار بلادهم بعد أن دمرتها الحرب العالمية مرتين خلال ربع قرن تقريباً، وإذا كان تنفيذ المشروع الأوروبي هو عامل رئيسي في تحقيق هذه المعجزة، فهل يسع العرب أن يتطلعوا إلى تحقيق مثل هذه المعجزة؟ لقد سبق العرب الأوروبيين إلى إقامة منظمتهم الإقليمية، كما سبقوهم أيضاً إلى توقيع معاهدة التعاون الاقتصادي، وأسس العرب منطقة التجارة العربية الكبرى (غافتا) عام 1997. ألا تشكل هذه المعاهدات والاتفاقيات مجالاً مناسباً ومنصة كافية لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار والبناء في الدول العربية المنكوبة؟

يشير مسؤولون عرب إلى أن الدول العربية قد خفضت العديد من الضرائب الجمركية، ولكن المعروف أن تخفيض الضرائب جاء في أكثر الأحيان استجابة للمعاهدات المتعلقة بالتجارة الدولية وليس للقرارات المتخذة في إطار (غافتا). فضلاً عن ذلك، فإن الدول العربية لم تبذل جهداً حقيقياً لتخليص التجارة العربية البينية من مصاعب القيود والعقبات غير الجمركية. إن هذه العقبات مثل ارتفاع تكاليف نقل البضائع وطول مدة عبور الحدود وصعوبات الحصول على تأشيرة دخول الدول العربية للمواطنين والقيود الفنية المتزايدة التي تفرضها الحكومات العربية على الشركات التي تعمل في إطار التجارة البينية، كل ذلك يشكل عقبات مهمة أمام مشاريع إعادة الإعمار والبناء. ويجدر بالذكر أن هذه الصعوبات تصاعدت بعد تفاقم الحروب العربية، ولكنها لم تأت معها بل سبقتها كما يقول التقرير السنوي الهام الصادر في نيسان (أبريل) الماضي عن الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية. استطراداً، فإن من المعتقد والمرجح ألا يعتمد أصحاب القرار في المنطقة العربية نهج الإعمار الإقليمي، بل أن يعتمدوا المقاربة المحلية لهذه المسألة بحيث تبقى الفوائد محصورة في عدد محدود من رجال الأعمال.

ثالثاً: لقد وفر مشروع مارشال تمويلاً سخياً لتمويل المشروع الأوروبي بحيث أمكن تنفيذ إعادة إعمار أوروبا في مدى زمني قياسي. وفضلاً عن توفير التمويل فإن الإدارة الأميركية كانت تحرص على أن يسلم قسم كبير منه عبر الآليات الجماعية. وأمل كثيرون من الذين دعوا إلى تحقيق مشروع عربي على غرار مشروع مارشال أن يتوافر تمويل عربي لهذا المشروع، بحيث لا يستفاد منه كوسيلة ضغط على الدول العربية لإجبارها على تقديم تنازلات تتناقض مع مصالحها الوطنية، خصوصاً في قضية فلسطين والعلاقات الاقتصادية. فهل هناك ما يوحي بإمكانية الاستجابة إلى مثل هذه التمنيات؟ إن الأوضاع العربية الاقتصادية والسياسية تدل على صعوبة توفير تمويل عربي واسع النطاق لإعادة إعمار البلدان العربية التي دمرتها الحروب.

رابعاً: لقد نشأت السوق المشتركة ومن بعدها الاتحاد الأوروبي بين دول يجمع بينها الالتزام بمبادئ الديموقراطية. وبينت التجربة أن هذه المبادئ هي الأفضل لتحقيق الاستقرار والازدهار وعلاقات جوار سليمة بين دول القارة. وبديهي أن الالتزام بهذه المبادئ لعب دوراً مهماً ورئيسياً في إعادة إعمار وبناء أوروبا بعد أن حطمت مرتين خلال فترة تاريخية قصيرة. إن الالتزام بالديموقراطية سوف يلعب دوراً مهماً في تشجيع العديد من الجماعات والفئات الاقتصادية التي تسعى لتحقيق أرباح معقولة عبر المساهمة في عملية إعادة إعمار البلدان العربية. ولكن هذه الجماعات قد تساهم باندفاع في توفير تمويل للعديد من مشاريع إعادة الإعمار وفي تنفيذها إذا لمست أنها ستعمل في أجواء تحترم معايير التنافس المتكافئ، وهو ما رافق تطبيق التجربة الأوروبية في إعادة البناء. فهل يمكن ضمان مثل هذه الأجواء في المنطقة العربية؟ في أكثر الحالات يسود هذا الشرط الأخير الكثير من الضبابية والشكوك مما يثير عقبات وصعوبات تعترض الطريق الإعماري للسلام في المنطقة مثلما تعترض الطريق السياسي لعودة السلام إليها.

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي