«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

رغيد الصلح (الحياة)

بعد أن تراجعت فكرة الديكتاتور العادل بخاصة خلال المرحلة الأولى من الربيع العربي، تعود هذه الفكرة الى التداول من جديد. تترافق عودة مفهوم «الديكتاتور العادل» مع استمرار الحروب والنزاعات المسلحة في المنطقة ومع انهيار محاولات كثيرة لإنهائها سواء بالحلول العسكرية الحاسمة او من طريق المفاوضات والمساعي السلمية. يأتي الترويج لهذا المفهوم في بعض الأحيان من بين مؤيدي الأنظمة السابقة. فهؤلاء ينتقدون مصطلح الربيع العربي وما يثيره من انطباعات خاطئة عن طبيعة المتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة. ويركز هؤلاء انتقاداتهم ايضاً على «النظام الديموقراطي» الذي يؤكدون مجدداً انه «لا يصلح للعرب وأن العرب ليسوا مؤهلين لتطبيقه».

إن تحفيز الشعور بأن الانظمة السابقة تبقى، على علاتها، أفضل من الواقع الراهن، يبطن هو ايضاً دعوة مناهضة للتطلعات الديموقراطية. ولكن الذين يشاركون في مثل هذه المقارنات، ومنهم من كان معارضاً للنظام السابق او حيادياً تجاهه، يسعون الى عقد صفقات مع انصار النظام السابق. تنعقد هذه الصفقة في ظل الموقف المشترك ليس من الوضع الراهن فحسب، وانما ايضاً من فكرة التغيير الديموقراطي. فالأرجح ان الفريقين، اي فريق الموالين للنظام السابق، والفريق غير الموالي لذلك النظام، هما من مؤيدي مفهوم «الديكتاتور العادل» مع التشديد على الشق الأول منه والتساهل في تطبيق الشق الثاني من المصطلح.

إن البيئة التي تتشكل من الفريقين المشار اليهما أعلاه تتوسع جنباً الى جنب مع اتساع رقعة المعارك، وتنتشر مع تفاقم الأهوال في المجتمعات العربية، ومع تنامي اليأس والشعور بالعجز فيها. وبينما كان الهدف المشترك بين المشاركين كافة في الربيع العربي والمتجاوبين معه في الأقطار العربية هو استبدال النظم الديكتاتورية بالانظمة الديموقراطية، بات الهدف المشترك اليوم بين كثرة المواطنين في دول الجحيم العربي هو إعادة الاستقرار والوحدة الترابية الى المنطقة من طريق الحكم القوي. هذا التغيير مؤشر، في نظر الآخذين بمقاربة «الاستبداد الشرقي» لمسألة الديموقراطية في المنطقة العربية على صواب هذه المقاربة، فهل هذه النظرة في محلها؟

قد تكون هذه المقاربة في محلها لو ان الاستبداد صفة لصيقة بالمجتمعات العربية دون غيرها، ولو كان من المستبعد والمستحيل عقد مقارنات بين ما يجري في الدول العربية اليوم، وما ألم ببعض المجتمعات المتقدمة بالأمس او ما يمكن ان يتكرر فيها في المستقبل اذا تعرضت الى ضغوط وتعقيدات تشبه ما تتعرض اليه المنطقة العربية في هذه الأيام. في هذا الصدد من المستطاع مقارنة احوال البلدان العربية بأحوال الدول والمجتمعات الأوروبية عند نهاية الحرب العالمية الأولى.

لقد درج المؤرخون ان يعتبروا نهاية الحرب خلال عام 1918 مرحلة فاصلة في تاريخ اوروبا والعالم، ولكن المؤرخ روبرت غيرواتش، مدير معهد الدراسات العسكرية في جامعة دبلن في ايرلندا، يتجاوز هذا الحاجز النظري، ويحاول ان يجيب عن السؤال الذي عنون به كتابه الجديد «لماذا استمرت الحرب العالمية الأولى؟». ويركز غيرواتش في كتابه هذا على استمرار الحروب والنزاعات في القارة الأوروبية. ويقول المؤرخ الإيرلندي انه خلال المرحلة التي سبقت الحرب، استخدمت القوى الامبريالية الاوروبية جيوشها في غزوات ونزاعات عسكرية خارج القارة بحيث جنبت القارة نفسها اهوال الاقتتال. ولكن عندما توقفت الحرب العالمية خارج اوروبا، فإنها ما لبثت ان انتقلت اليها حيث ولدت فيها ومن خلالها «ثقافة العنف». ولقد طغت هذه الثقافة على اوروبا بعد ان انتشرت في أرجاء القارة الاوروبية (في روسيا، المانيا، بولندا، النمسا، المجر الخ…) الحروب الاهلية والعسكرية التي استمرت حتى منتصف العشرينات تقريباً.

إن خفوت أصوات المدافع في القارة الأوروبية لم يفضِ الى اختفاء ثقافة العنف وتجلياتها. بالعكس، في السنوات الأولى من العشرينات، شهدت القارة صعود أهم رموز هذه الثقافة في التاريخ الأوروبي المعاصر، اي ادولف هتلر وبنيتو موسوليني. لقد جسد كل واحد، في نظر انصاره ومؤيديه، مفهوم «الديكتاتور العادل». في مناقشته شخصية هتلر، يقتبس المؤرخ ارتشي براون في كتابه «اسطورة القائد القوي» عن الزعيم النازي تصوره لذلك القائد. ويعتقد براون ان هتلر كان يصف نفسه – وربما موسوليني- عندما كان يتحدث عن القائد القوي في كتاب «كفاحي» قائلاً: ان اجتماع صفات المفكر، المنظم والقائد، في شخص واحد لهو من أندر الأحداث التي يمكن تحققها في العالم، وهذا ما يمكن ان يجعل المرء شخصاً عظيماً. وقد احتل هذا المفهوم مرتبة اساسية في البنية الفكرية للحركتين النازية والفاشية اللتين انجبتا هتلر في المانيا وموسوليني في ايطاليا.

شهدت القارة الأوروبية صعود الديكتاتورين في الفترة نفسها التي تراجعت لغة الحروب في دول القارة، فكانت مأسسة لغة العنف بإدماجها واستخدامها في المبارزات الايديولوجية استمراراً للمناخ الفكري والسياسي الذي ساد القارة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى. كما كانت مأسسة لغة الاقتتال خير وسيلة لتحضير الأوروبيين للأجواء التي ستصطبغ بألوان الحرب واعمال الدمار التي اقتحمت أهم مدن اوروبا ومناطق العمران فيها. وكان من أوجه تلك المأسسة إطلاق عبادة الشخصية في المانيا وايطاليا كوسيلة تعبوية للحرب في البلدين.

لقد فسر سقوط النظام الديموقراطي في كل من المانيا وايطاليا انه يعود الى انهما تأخرا في الانتقال من المجتمعات الزراعية حيث لا يستغرب ان تنمو فيها الأحزاب والمنظمات التي تقوم على عبادة الشخصية وتأليه الدولة. ولكن هذا لا يفسر قيام النظامين في وسط اوروبا بينما كان شمال اوروبا، اي الدول الاسكندنافية وبخاصة السويد، تطبق الديموقراطية الاجتماعية بنجاح كبير. ولئن كانت المجتمعات الاسكندنافية تختلف عن حال المجتمع الايطالي فان تركيبها لم يبتعد كثيراً عن المجتمع الألماني، فلماذا نجحت الدول الاسكندنافية في الحفاظ على النظام الديموقراطي بينما فشلت التجربة في المانيا؟

يحاول العديد من المؤرخين وعلماء السياسة الدولية الإجابة عن هذا السؤال. ولكن هذا المسعى يبقى محصوراً بفئة محدودة من أهل المعرفة. وقد يبدو بعيداً عن احوالنا اليوم: عن احوال اوروبا وبخاصة عن احوال البلاد العربية، ولكن الواقع هو غير ذلك. فالقارة الاوروبية قد تقع مرة اخرى في يد أحزاب اليمين المتطرف، اي في يد قوى مناهضة للديموقراطية. وهذا ما يهدد بتكرار المآسي التاريخية التي نجمت عن وصول تلك القوى في الماضي الى الحكم في وسط اوروبا. ان المساهمة الحية في هذا المسعى الهادف الى تصحيح فهمنا لتلك الحقبة من التاريخ تفيد على صعيدين مهمين:

الأول، هو تقديم إدراك أوسع وأكثر نزاهة ودقة للصعوبات التي تعترض نشر الديموقراطية على الصعيد الدولي وبخاصة انتشارها في المنطقة العربية. فأين الاستبداد الهتلري، مثلاً، من «الاستبداد الشرقي»؟ على هذا الصعيد هناك متابعات لموضوع مآل الديموقراطية في اوروبا جديرة بالاهتمام، مثل ما جاء في كتاب شيري بيرمان، الأكاديمية الأميركية، حول فشل النازيين في اسقاط النظام السويدي الديموقراطي. وتجيب بيرمان على هذا التساؤل بالعودة الى الظروف السياسية التي أدت الى وصول الفاشيين والنازيين الى الحكم في المانيا والفارق بين هذه الظروف التي سبقت ظروف ونجاح تجربة الديموقراطية الاجتماعية في الدول الاسكندنافية. كان الفرق بين الحالين هو عجز احزاب يسار الوسط في المانيا وايطاليا عن تكوين تحالفات في ما بينها لمواجهة مناهضي الديموقراطية، بينما حقق الديموقراطيون الاجتماعيون نجاحاً تاريخياً على هذا الصعيد في السويد.

الثاني، هو التأهب لاحتمال وصول احزاب اليمين المتطرف الى الحكم في اوروبا، وتداعيات هذا الحدث على مصير المهاجرين العرب في القارة الاوروبية وعلى صعيد العلاقات الاوروبية-العربية. ان اليمين المتطرف يستهدف في كافة نشاطاته وحملاته التحريضية: الإرهاب والهجرة، وكلاهما يهيئان لثقافة عنف جديد موجه بالدرجة الأولى ضد العرب. وللحيلولة دون استفحال هذه الظاهرة فإنه لا بد ان ندرس بعناية مسألة حوافز التفاهم الاوروبي-العربي والتعاون بين الطرفين في نشر وتأصيل الديموقراطية على شواطئ المتوسط وفي العمقين العربي والاوروبي، وان يسعى العرب وبخاصة في المهجر الأوروبي الى نجاح كل مبادرة على هذا الصعيد.

 

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي