قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

رغيد الصلح (الحياة)

ينظر بعضهم إلى الحلف الأطلسي وكأنه نموذج للمنظمات الدولية المتماسكة، ومثال للأحلاف العسكرية الفاعلة. فالأطلسي الذي يضم 27 دولة أكثرها في الغرب، يدرك التحديات التي تواجهه بصورة خاصة والمجتمع الدولي بصورة عامة ويعمل على بلورة استراتيجيات مناسبة للتعامل معها ولإيجاد الحلول المناسبة للمعضلات التي تثيرها. وفي الكلمة التي استبق فيها الأمين العام للحلف، جينس ستولتنبرغ، قمة الأطلسي التي تبدأ غداً الجمعة، سعى إلى تأكيد هذه الصورة وإلى التنويه بأن أجندة القمة سوف تبيّن طابع التنوّع والشمول والتحديد الدقيق لأولويات الحلف وإستراتيجياته.

فالقمة سوف تتوقف عند الأخطار الوافدة إلى أوروبا من الشرق حيث قامت روسيا باحتلال شبه جزيرة القرم بغير حق وتثير القلاقل في أوكرانيا، وتعمل بصورة تثير الارتياب على مراكمة قواها العسكرية في البحرين البلطيقي والأسود. وفي الجنوب يرصد الحلف المزيد من التحديات ومنها الإرهاب وارتفاع منسوب الهجرة إلى القارة الأوروبية. وفضلاً عن ذلك هناك أخطار الحرب السيبرانية والذرية والصواريخ الباليستية.

لقد تناول جينس ستولتنبرغ أمين عام «الناتو» هذه التحديات على نحو يوحي بأن الأطلسي الذي هو أكبر حلف عسكري في العالم، قادر على مجابهة هذه التحديات دفعة واحدة، وبأن القمة قادرة على تقديم علاجات سليمة لها. فهل هذه النظرة في محلها؟

تصطدم هذه النظرة، في رأي المتابعين للحلف، بعقبات كبرى بعضها عائد إلى اعتبارات مفاهيمية وإجرائية وعسكرية. فعلى الصعيد المفاهيمي هناك جدل واسع الآن في «الناتو» حول دوره في النظام الدولي: هل يكون مجرد حلف عسكري يضم الدول الديموقراطية الليبرالية، أو بالأحرى الدول الغربية، كما نشأ أصلاً أم أنه من المناسب تحويله إلى تحالف دولي؟ وهل يبقى الأطلسي حلفاً عسكرياً أم الأصح، أنه أخذاً في الاعتبار العلاقة بين السلم والاقتصاد، إضفاء أبعاد اجتماعية واقتصادية على أهدافه ونشاطاته كما اقترح بعض الساسة الأوروبيين بعد نهاية الحرب الباردة؟ وبعد زوال مبرّرات سباق التسلّح بين الشرق والغرب كما ظنّ بعضهم؟ وهل يصلح «الناتو» ايضاً للتحول الى حلف عسكري وسياسي في آن واحد؟ ان هذه الأسئلة سوف تطرح بإلحاح في المستقبل بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ونتيجة توقعات كثيرة ومتشائمة حول بقاء الاتحاد الأوروبي كتجربة رائدة في تاريخ الإنسانية وفي مكافحة أجواء الحروب والصراعات الدولية القاتمة.

وتصطدم هذه النظرة حول مجابهة التحديات ايضاً بواقع «الناتو» الراهن، وبحال العلاقات بين الدول الأعضاء فيه، بخاصة من الذين يحتلون المقاعد الأمامية في المقامات القيادية فيه. فخلافاً للانطباع المتفائل بأن هناك وفاقاً عاماً بين دول الحلف على رسم الأولويات، وبالتالي على طريقة التعاطي معها، تنتشر انطباعات معاكسة بين متابعين لـ «الناتو» وعارفين بأحواله. بين هذا النموذج الأخير من المحللين والمراقبين والدارسين، ترى كل من د. ليزا أرونسون، مديرة قسم الدراسات الأطلسية في معهد «روسي» للدراسات الإستراتيجية في لندن، ود. موللي أودونيل، الأستاذة في جامعة تشيكاغو في الولايات المتحدة بأن هناك جدلاً دائماً احياناً بين اعضاء الحلف، بحيث ينقسم هؤلاء الى فريقين رئيسيين:

الأول، فريق يدعو الى اضطلاع «الناتو» بدور نشيط في دعم السياسة التي تطبقها الولايات المتحدة في الشرق الأقصى. وتثير هذه الدعوة المخاوف في بعض الأوساط الأوروبية بخاصة في أوروبا الشرقية، كما أثارت استراتيجية الانعطاف القلق في بعض الأوساط العربية اذ اعتبرت ان الأخذ بها يفتح الباب أمام بعض القوى الإقليمية لكي تحقق طموحاتها التوسعية والهيمنة على حساب دول عربية مجاورة. ففي اوروبا ايضاً هناك من يخشى ان تكون وراء هذه الدعوة نوايا اوروبية «سلامية» كفيلة بأن تقود الدول الأوروبية وحتى «الناتو» الى الحد من التسلح القاري وتخفيض الإنفاق العسكري وموازنات التسلح بداعي التقشف والسعي الى تجاوز الأزمات المالية والاقتصادية التي تعاني منها بعض دول «الناتو».

ان الذين يدعون الى قيام «الناتو» بدور نشيط في مساندة الولايات المتحدة في المحيط الباسيفيكي لا يرون اي داع لهذه المخاوف. على العكس من ذلك انهم يؤكدون أنهم لا يجدون تناقضاً بين تعزيز الأمن القاري الأوروبي من جهة، ودعم الإستراتيجية الأميركية التي تعطي الأولوية لاحتواء الصين، من جهة ثانية. ان ما يرغبون فيه هو ان تعزز الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف قدراتها العسكرية بحيث تكون قادرة على بسط «السلام الأطلسي» في وسط آسيا وشرق اوروبا والشرق الأوسط وصولاً الى المحيط الهندي والمغرب العربي. بذلك يمكن الولايات المتحدة ان تنقل إذا اقتضت الظروف بعض قواتها الى الشرق الأقصى من دون ان تخشى تصدّع البنية العسكرية والسياسية التي أقامتها في القارة الأوروبية وفي البلاد القريبة منها.

أما الفريق الثاني فيدعو إلى أن يركز الحلف الأطلسي على إعطاء الأولوية للأمن الأوروبي، ومن ثم على التصدي لخطر الصعود الروسي. بالطبع، لا يقلل هذا الفريق من خطر الصعود الصيني ولا من ابعاده العالمية، ولكنه يرى ان المعركة الرئيسية في عالمنا هي اليوم كما كانت خلال القرن العشرين في القارة الأاوروبية، ولذلك يدعو الى استمرار الالتزام بأمن القارة الأوروبية. ولكن هذا الفريق يضم اطيافاً متفرّقة من مناصري أولوية الأمن الأوروبي.

فبين هؤلاء متشددون ينفخون من دون توقف بنيران الحرب الباردة. فالجنرال ريتشارد شيرف، الذي كان نائباً للقائد الأعلى للحلف، قال في قصة نشرها بعنوان «الحرب مع روسيا» إن الحرب التي بدأت باحتلال موسكو شبه جزيرة القرم سوف تعم الكرة الأرضية. وتتردّد مثل هذه التوقعات والنظريات إلى درجة دفعت وزير الخارجية الألمانية فرانك – والتر شتاينماير إلى توجيه نقد شديد إلى تجار الحروب وإلى الذين يلعبون بالنار.

أن كل نظرة من هذه النظرات وكل احتمال من الاحتمالات المتعلقة بالأمن العالمي لها انعكاسات مباشرة على المنطقة العربية. بيد أن الأقرب منها إلى المنطقة هو احتمال تسخين الجبهة الأوروبية – الروسية. فروسيا متهمة اليوم أنها تسعى، مرة أخرى، إلى اقتحام البحر الأبيض المتوسط بدليل تحرك أسطولها في مياهه الدافئة وإطلاق الصواريخ منه على أهداف سورية. كذلك فإن روسيا متهمة بأنها تسعى إلى إعادة بناء موقع لها في ليبيا، وبأنها تتّّخذ من نشر الصواريخ على مقربة من حدودها ذريعة لتصعيد تحركاتها العسكرية والسياسية في القارة.

وراء كل هذه الاتهامات اتهام رئيسي هو أن روسيا تسعى إلى احياء صلتها ومكانتها في بعض مناطق النفوذ السابقة. تلك ولا شك تهمة خطيرة ولكن في نظام دولي خال من مناطق النفوذ، وفي عالم من المساواة الكاملة بين الدول، سواء كانت كبرى أم مجهرية الحجم. ولكن بالطبع فإن عالمنا الراهن لا يتجه إلى التخلّص من مناطق النفوذ بل إلى زيادتها واستفحالها. ومن المؤكد أن روسيا ليست لاعباً وحيداً في هذا المضمار. لذلك فإن من المستبعد أن تكفّ موسكو عن التطلع إلى تعزيز مكانتها الدولية في دول الجوار، كما أن من المستبعد ايضاً أن تتوقف دول «الناتو» الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة عن استخدام شتى أنواع الضغط على روسيا حتى تنسى أنها كانت يوماً من الأيام قوة عظمى وشريكاً فعالاً في النظام الدولي.

إن بعض دول «الناتو»، مثل ألمانيا ودول جنوب أوروبا لا تظهر حماسة لهذا المسار الأخير، وقد تفضّل مقاربة مختلفة لتحديد دور «الناتو» في المرحلة المقبلة. ولكن هذه الدول، على أهميتها، لا تملك وسائل الضغط الكافية لكي تحمل تجّار الحروب، كما وصفهم شتانماير، على اختيار تجارة أخرى تصنع الحياة لا القتل والدمار، ومن ثم فإن من المستبعد أن تأتي قمة «الناتو» غداً بقرارات أو مشاريع تحدّ من تزايد النظرات المتشائمة تجاه السلم والأمن الدوليين. إن «الناتو» قد يزيد اهتمامه بالاقتصاد والقضايا الاجتماعية وقد يتحوّل من كيان عسكري إلى حلف سياسي – عسكري، وقد يُدخل تعديلاً على أولوياته، ولكن من الأرجح ألاّ يدخل تغييراً إيجابياً على صعيد العلاقات بين دول العالم الراهن.

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي