تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

رغيد الصلح (الحياة)

سلطت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا الضوء على المزايا الشخصية والقيادية التي يتمتع بها الرئيس التركي. لقد عالج هذا التحدي بمزيج من رباطة الجأش والحكمة فتمكن من القضاء على المحاولة بحزم وسرعة. بموازاة ذلك دل الانهيار السريع للمحاولة على أهمية ارتكاز حكومة أردوغان على قاعدة شعبية واسعة ومستعدة للدفاع عن حكومة «العدالة والتنمية». كما كان للموقف المشترك الذي اتخذته الأحزاب التركية أهمية كبرى في إنهاء المحاولة الانقلابية، والحفاظ على وحدة المجتمع التركي وإنقاذ النظام الديموقراطي في تركيا من العبث الانقلابي.

وكما يحدث إبان وبعد الانقلابات الفاشلة، فان مثل هذا الفصل الكئيب لا ينتهي بانهزام الانقلابيين، بل تزول آثاره بعد انقضاء فترة كافية من الزمن وبعد استخراج العبر منه ومن تداعياته. كذلك يمكن طي صفحة هذا الفصل المؤلم عبر سلوك الطريق الأنجح لمعالج نتائجه البعيدة المدى التي يمكن أن تؤثر على تركيا في مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية. ويملك الرئيس التركي بدائل كثيرة لكي يختار من بينها. من بين هذه البدائل يمكن التأكيد على خيارين مهمين:

الأول، التعجيل في اجتياز تركيا عتبة الانتقال إلى الديموقراطية وإلى تحولها إلى دولة مشاركة شعبية راسخة بحيث تكون الديموقراطية، رئاسية كانت أم برلمانية، هي «اللعبة الوحيدة في البلد». لقد خطت تركيا خطوات مهمة على هذا الصعيد، ولكن لا يزال هناك الكثير مما يجب إنجازه على صعيد التحول الديموقراطي، كما تردد بعض المصادر الدولية المعنية بانتشار الديموقراطية وترسخها. فحتى المحاولة الانقلابية الفاشلة ظل الإعلام التركي- على سبيل المثال- يتعرض للكثير من الضغط لكي يتبع الخط الحكومي. كذلك تعرض القضاء التركي لضغوط مماثلة لمماشاة مصالح وسياسات الحزب الحاكم.

ولقد أشارت العديد من التقارير الصادرة عن جهات دولية مثل منظمة العفو الدولية والاتحاد الأوروبي إلى هذه المخالفات. وتوقفت تقارير الاتحاد أمام تعارض هذه المخالفات مع «معايير كوبنهاغن» التي تحدد بدقة الإصلاحات المطلوبة حتى تتأهل تركيا للانضمام إلى الاتحاد. وفي مناسبات متنوعة عبرت أنقرة عن انزعاجها من هذه الانتقادات المتكررة والعلنية، ووجدت فيها محاولة لتبرير تهرب الاتحاد من تلبية طلب انضمام تركيا الى عضويته. على رغم ذلك، أعلن الزعماء الأتراك، ومنهم الرئيس التركي، أن بلدهم مصرّ على الانضمام إلى الاتحاد حتى وعلى الالتزام الأحادي بمعايير كوبنهاغن ومستعد لتطبيقها من جهة واحدة حتى ولو تخلت بروكسيل عن اعتبار هذه المعايير مقاييس لالتزام تركيا بالخيار الديموقراطي.

اتخذ الزعماء الأتراك هذا الموقف عندما كان الانضمام إلى الاتحاد هو الهم الأول في أنقرة. أما اليوم وبعد أزمة اليورو وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعد التراجعات التي أصابت مشاريع الديموقراطية في أميركا اللاتينية وبعض دول آسيا، فإن من الطبيعي أن تتراجع أهمية معايير كوبنهاغن لدى النخبة الحاكمة التركية. فضلاً عن ذلك، فإنه لن يكون مستغرباً أن يتزامن التراجع في أهمية هذه المعايير مع تراجع الاهتمام بمشاريع الدمقرطة التركية.

الثاني، هو التمسك بالمشروع الدستوري الذي يحتل أهمية كبرى لدى أردوغان والذي يتلخص في تحويل النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. وفي إصراره على تنفيذ هذا المشروع، لم يتردد أردوغان في إعلان إحباطه وشكواه من الثغرات المتغلغلة في نظام الديموقراطية البرلمانية مثل تلك التي «تلزمه بأن يتعاون مع أشخاص لا يرغب، لسبب أو لآخر، في التعاون معهم». كذلك لم يتردد الرئيس التركي في تصوير النظام الرئاسي وكأنه المدخل الضروري لتحول تركيا إلى دولة عصرية ومتقدمة، وإلى قوة مهمة من قوى القرن الواحد والعشرين. المقارنة الضمنية هنا هي ليست بين تركيا وبين دول قمة العشرين، ولكن بينها وبين الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وإذ يحتل المشروع الرئاسي هذه الأهمية لدى النخبة التركية الحاكمة، فإنه لا غرابة في أن يصف أردوغان محاولة الانقلاب بأنها «نعمة إلهية» ما دامت تسمح بالتخلص من الذين يزرعون العقبات أمام تمتع تركيا بالنظام الدستوري الأفضل، أي بالنظام الرئاسي.

لهذا النظام، في نظر دعاته ومنهم الرئيس التركي، فوائد كثيرة. فهو يضمن الاستقرار ويعزز الازدهار ويحصن وحدة البلد الترابية والسياسية. وتستند النظرة المتفائلة إلى هذا النظام إلى تجارب ملموسة أنجب فيها الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي مثل هذه النتائج. ولعل التجربة الأهم على هذا الصعيد هي التجربة التي قادها الجنرال شارل ديغول في فرنسا حين استبدل نظام الديموقراطية البرلمانية الذي كان سائداً خلال الجمهوريتين الفرنسيتين الثالثة والرابعة، بالنظام الرئاسي (أو الهجين-الثنائي) الذي يطبق الآن في فرنسا.

لقد اتصفت مرحلة الديموقراطية البرلمانية في فرنسا بالأزمات السياسية المتلاحقة. فبين يوم الإعلان عن ولادة الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1875 وحتى نهايتها خلال الثلاثينات، أي خلال 65 عاماً، تعاقبت على الحكم 93 حكومة، كما يقول فرانسوا غوغيل في مقاله «غياب الاستقرار في فرنسا». وبين عامي 1947 و1954 شهدت باريس تناوب 15 حكومة على السلطة. وخلال هذه المراحل عاشت فرنسا العديد من الأشهر من دون حكومات. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الواقع السياسي على فاعلية الدولة وعلى مشاريعها البعيدة المدى، وعلى صلة المواطن بالحكم ومدى تأثيره على الحكومات وعلى سياسات الدولة الفرنسية. ولقد تفاقمت أوضاع النظام الديموقراطي البرلماني حتى وصلت إلى حدود الأزمة التاريخية التي جاءت بالجنرال ديغول إلى الحكم وإلى إعلان ولادة الجمهورية الخامسة الفرنسية.

لقد أمن النظام الرئاسي لفرنسا الاستقرار وسمح لها بتطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية ومكانتها السياسية. وبينما بحث القادة المنتصرون في الحرب العالمية الثانية إمكانية تقسيم فرنسا إلى دويلات ضماناً للاستقرار في القارة، إذا بفرنسا الجمهورية الخامسة تتحول إلى دولة يحسب لها الجميع الحساب. ومن أحاديث أردوغان ومبادراته يستنتج المرء أنه ليس أقل طموحاً من الرئيس الفرنسي الراحل، وليس أقل منه حرصاً على الارتقاء في شأن تركيا وبأحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

بالطبع لا عيب في أن يكون الحاكم طموحاً، وأما أن يرغب ويسعى إلى تقدم بلده وسيره دوما على طريق الارتقاء فهذه مزية كبرى يتطلع إليها أي حاكم مخلص لبلده وللمجتمع الدولي عامة. ولكن هنا يجد من يتابع التطورات التركية نفسه أمام سؤال مهم: ترى هل أن تركيا تحتاج حقاً إلى نظام رئاسي؟ وهل تكون محاولة الانقلاب الفاشلة مناسبة للتعجيل في ولادة هذا النظام؟ هناك سببان للرد سلباً على السؤالين:

أولاً، من المسوغات التي تقدم لتبرير المطالبة بالانتقال إلى النظام الرئاسي، هو أن الديموقراطية البرلمانية فشلت في توفير الازدهار والاستقرار في البلد المعني. هل ينطبق ذلك على تركيا؟ إذ يجيب المرء على هذا التساؤل يجد نفسه أمام مفارقة هامة. والمفارقة هنا هي أن هذا التحول تم في ظل نظام ديموقراطي برلماني. بل أن المفارقة الأبرز هي أن هذا التحول بدأ واستمر في ظل ولاية الرئيسين تورغوت أوزال وسليمان ديميريل وأخيراً لا آخراً، الرئيس أردوغان نفسه. فلماذا يتخلى أردوغان عن نظام وعن تجربة ناجحة حتى الآن اقترنت باسمه واسم الرئيسين الراحلين؟

ثانياً، قد يكون الرئيس أردوغان راغباً في تمتين النظام الديموقراطي والتعجيل في الانتقال إلى مرحلة ترسيخ الديموقراطية وتجذيرها، وقد يكون مقتنعاً بأن سعيه إلى استبدال الديموقراطية البرلمانية بالديموقراطية الرئاسية يندرج في نفس السياق. ولكن الصورة الغالبة هي أنه يفعل ذلك بغرض توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب السلطات الاشتراعية والقضائية. ويخشى كثيرون أن يكون الرئيس أردوغان لا يسعى إلى استبدال البرلمانية الديموقراطية بالنظام الرئاسي فحسب، وإنما أيضاً إلى استبدال التعددية الحزبية بنظام الحزب الواحد.

من شأن هذه المخاوف أن تزداد حدة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة وبعد حملة الاعتقالات والإجراءات التأديبية الواسعة النطاق التي أصابت أهدافاً كثيرة داخل مفاصل الدولة التركية وفي المجتمع المدني. إن استمرار هذه الأجواء وتصاعدها سيؤدي إلى نتائج لا تخدم الاستقرار والازدهار في تركيا. إن مصلحة تركيا ومصلحة جيرانها في الشرق والغرب هي في تلافي هذه الأجواء. إن سحب مشروع النظام الرئاسي من التداول، أو حتى تأجيل البحث فيه إلى يوم تهدأ فيه المخاوف، سيخدم الجميع بما في ذلك حزب «العدالة والتنمية» وزعيمه الرئيس أردوغان.

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي