كهرباء لبنان: الهدر الدائم والحلول المفقودة!

ربيع كمال الدين (الأنباء)

يعد قطاع الكهرباء في لبنان منذ إتفاق الطائف وحتى اليوم بمثابة كارثة حقيقية على الإقتصاد اللبناني، لم تستطع أي من الحكومات المتعاقبة، ورغم تغير الجهات السياسية التي أدارت هذا القطاع، من وضع خطة نهوض شاملة له، لم تتحسن نوعية الخدمة فيه وتخفض النزف المالي المدمّر الذي تتكبده الدولة.

 أشارت بعض الدراسات إلى أن  مليارات الدولارات التي أُنفقت على هذا القطاع منذ إنتهاء الحرب الأهلية (1990) وحتى يومنا هذا والتي شكلت أكثر من ثلث الدين العام اللبناني (ما بين 25 إلى 30 مليار دولار)، صُرفت بمجملها بشكل خاطىء وعشوائي، ما أدى إلى بقاء هذا القطاع على هذا الوضع المأساوي، حيث أنه لا يزال يخضع لنظام التقنين على مدار السنة ويزداد هذا التقنين إلى مداه الأقصى بداية كل فصل صيف (أي أن الكهرباء تؤمن ما بين 8 ساعات إلى 18 ساعة يومياً فقط في معظم المناطق اللبنانية)  رغم التأثير الكبير لذلك على كافة القطاعات الإقتصادية في البلد لا سيما الصناعية والسياحية، والوقع السلبي على مختلف الشركات الأجنبية التي ترغب بالإستثمار في لبنان.

في جردة سريعة لـ “قصة” الكهرباء في لبنان، نرى أو نلاحظ الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت بحق هذا القطاع الحيوي والمغذي لمختلف القطاعات الأخرى، إضافة إلى بعض الضربات القاسية الخارجة عن السيطرة  التي تعرض لها والناتجة بمعظمها عن حروب العدو الإسرائيلي على لبنان.

خرج لبنان من الحرب الأهلية بقطاع كهربائي ُيرثى له بكافة أقسامه. الإنتاج بأدنى مستوياته ولا يكفي لنصف الطاقة المطلوبة، شبكة التوزيع مهترئة مقطوعة عن بعضها البعض، والجباية شبه موجودة في كل منطقة على حدة. في العام 1992 وضمن خطة إعادة إعمار لبنان،  وُضعت خطة شاملة لهذا القطاع تضمنت ترميم المعامل الموجودة، بناء معامل إنتاج جديدة، إعادة توصيل شبكة التوزيع وتطويرها وتحسين الجباية على مراحل تترافق مع التحسن بساعات التغذية. بدأت الورشة، وبالفعل وصل إنتاج الطاقة في لبنان في نهاية العام 1997 إلى حوالي 1600 ميغاوات أي كافة الكميات المطلوبة حينها، وعليه أصبحت التغذية ما يقارب الـ 24/24 في مختلف المناطق اللبنانية، علماً أن كل ذلك حصل رغم النكسات الكبيرة التي أصابت لبنان وقطاع الطاقة فيه بالتحديد كحرب عناقيد الغضب الإسرائيلية في العام 1996 وقبلها في العام 1993.

 إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً، فما هي إلا سنتين أو أكثر قليلاً حتى بدأ يتقشع أن كثير من الأموال قد أهدرت، والعديد من الأخطاء بإعادة البناء قد ارتكبت، فلا يكاد معمل الزوق يعمل بكل مجموعاته أو أكثرها حتى يتعطل معمل الجية، يتم إصلاحه فيتعطل معمل الزهراني وهكذا دواليك، حيث أنه تبيّن حينها أن معظم المعامل أصبحت قديمة جداً ولم يعمل على إعادة بناء مجموعاتها بشكل صحيح، حتى أن المعامل التي بنيت حديثاً لم تكن ملائمة للبنان فمنها ما يعمل على الغاز ولا يوجد غاز، كما لم يتم تأمينه لها عبر أنابيب من الدول المجاورة وذلك لأسباب متعددة ، مما أجبر الدولة على إعادة تحويلها للعمل على الفيول.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

 إضافةً لكل ذلك وكأسباب رئيسية في تضخم المشكلة وتفاقمها وبالتالي تراجع الإنتاج منذ العام 2000 كان الإرتفاع الكبير الذي طرأ على أسعار الفيول عالمياً مما كبد الدولة خسائر إضافية، التوظيف السياسي الغير مسبوق في مؤسسة كهرباء لبنان عبر المياومين أو المتعاقدين الذي استمر على مدى عقود، والذي كان بمعظمه لا يلبي حاجات المؤسسة الفعلية بل يحملها عبء اضافي، ناهيك عن الهدر بالطاقة المتمثل بالتعليق على الشبكة وعدم القدرة على مكافحته أو حتى على الجباية بحد ذاتها في بعض المناطق. كما لا يمكننا أن ننسى المشكلة التي استجدت منذ العام 2012 والمستمرة حتى اشعار آخر، والمتمثلة بالنزوح السوري الهائل إلى لبنان (حسب آخر الإحصاءات بلغ العدد حوالي مليونين نازح) والتي تقدر حاجته من الكهرباء لحوالي 700 ميغاوات.

عليه، نلاحظ أن المشكلة أصبحت جداً كبيرة، وبالتأكيد فإنها ستكون مستعصية على الحل إذا بقي الوضع على ما هو عليه. في الماضي القريب وخلال استلام الوزير جبران باسيل لوزارة الطاقة طالب باقرار خطة طارئة لهذا القطاع وصفها في حينه بأنها الخلاص لهذه المشكلة وقد تضمنت الخطة استجرار طاقة منتجة من خارج المعامل المبنية (كاستئجار بواخر لانتاج الطاقة، واستجرارها أيضاً من سوريا..) وذلك للقيام بشبه إعادة بناء وصيانة لمعظم معامل إنتاج الطاقة اللبنانية، حيث كان من المنتظر (وبحسب الوعود) أن تتأمن الكهرباء في مطلع العام 2015 بمعدل 22/24 وصولاً إلى معدل 24/24 في نهايته. الخطة ُأقرت في حينه، إلا أن التنفيذ تأخر والمشكلة ما زالت تكبر، رغم أن الوزير الذي أعقب الوزير باسيل هو ارتور نظاريان وهو من نفس الفريق السياسي، فما الذي حصل ولماذا فشلت الخطة؟

كهرباء الذوق

إذا ما نظرنا إلى الخطة المذكورة بشكل نظري وعلمي، نراها ممتازة و”خريطة طريق” لحل مستدام، إلا أن التطبيق كان مغايراً لها ومنقوص بشكل كبير، ما أدى إلى هذا السقوط الأكبر. بدأ التطبيق الخاطىء بعدم إقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، والمشاكل والتساؤلات التي رافقت استقدام باخرتين من تركيا لانتاج الطاقة، ومن ثم استمر هذا المسار بتلزيم الجباية لشركات وسيطة، أثبت الأيام عدم جدواها وعدم قدرتها على تحسين هذه الأخيرة ولو بقليل، بل على العكس.

 ولم تنتهِ  فوضى إدارة هذا الملف بالتخبط الذي رافق ولا يزال موضوع تثبيت المياومين إضافة إلى كثير من الأمور الأخرى والتي لن يسعنا الحديث عنها. إشارةً هنا إلى أن أسعار النفط التي تهاوت مع بداية تنفيذ هذه الخطة، كان من المفروض أن تساعد كثيراً في تنفيذها وتسهل تطبيقها، إلا أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، فالقرار الجدي بإصلاح هذا القطاع ربما لا يزال مفقوداً، لا سيما إذا ما نظرنا إلى بعض المستجدات على هذه الساحة التي تدعو إلى الشك والتساؤل. فالشبكات العنكبوتية الكهربائية، قصدنا هنا بالمولدات الخاصة، غزت كل المدن والبلدات اللبنانية وأصبحت من بديهيات الحياة اليومية رغم تكلفتها الهائلة على المستهلك مقارنة بكهرباء الدولة، والتي كان من الممكن لشركة كهرباء لبنان إن تقاضت نصف هذه المبالغ أو هذه الفواتير أن تخفض عجزها وتعاود إنطلاقتها بفترة وجيزة، أضف إلى عدم الإجازة ولأسباب لا تزال غير مفهومة لبعض الشركات الخاصة بانتاج الطاقة في بعض المناطق (لا سيما تلك التي ستستخدم سبل صديقة للبيئة) وتوزيعها بالتعاون مع شركة كهرباء لبنان، على نسق ما طبق وبعد جهد كبير مع كهرباء زحلة….

إذاً مشكلة الكهرباء في لبنان كانت وستبقى الجرح النازف مالياً وإقتصادياً، أقله في المدى المنظور، طالما أن القرار السياسي بحلها لم يتخذ بعد، سيما إذا ما علمنا أن شتى أنواع التجاذبات والمصالح متداخلة ومتشابكة فيه.