ماذا فعلت روسيا في سوريا، وهل بات الحل قريباً فعلا؟

ربيع كمال الدين (الأنباء)

خمس سنوات مرت على الأزمة السورية والصورة لا تزال على رماديتها، تعلو أسهم الحل والمفاوضات حيناً لتعود وتنخفض أحياناً على وقع أصوات الطائرات والمدافع. ربما لم يبق دولة على وجه المعمورة إلا و”بلّت” يدها في أزمة هذا البلد الجريح التي ُوصفت بأنها الأكثر تعقيداً (فلكل مصالحه وأهدافه ورؤيته للحل)، الأكثر دموية (عدد الضحايا المسجل فاق الـ280 الفاً وربما العدد الفعلي يصل إلى نصف المليون)، والأكثر لاانسانية في هذا العصر (فالجرائم التي ترتكب هناك تفوق قدرة الإستيعاب البشرية وتتجاوز مواصفات جرائم الحرب)، غير أن عدد اللاعبين الأساسيين يبقى محدوداً وموزعاً على معسكرين رئيسيين يمثلان طرفي الصراع، الأول يُختصر بالنظام السوري ومن يدعمه من إيران وروسيا إلى حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية وغيرهم، والثاني يتمثل بالمعارضة المعتدلة ومن يقف ورائها من مختلف دول العالم من تركيا والسعودية إلى الولايات المتحدة الأميركية وغيرها.

علماً أن هذين المعسكرين يقودان “في العلن أقله” ومنذ فترة ليست بقليلة حرباً “شعواء” على المعسكر الثالث المتمثل بالإرهاب من داعش إلى النصرة وغيرهما، إلا أن النتيجة لا تزال تلامس الصفر على هذا الصعيد، فهل القرار هو إطالة أمد الحرب وتدمير سوريا بالكامل خدمة للكيان الصهيوني أم بغية محاولة تحسين كل طرف وضعيته لفرض شروطه على الحل؟ وهل فعلاً شارفنا على نهاية الأعمال العسكرية الأساسية بعد بدء الإنسحاب العسكري الروسي؟

جنيف3

ما هو مؤكد أن الأزمة باتت فعلاً عالمية، وقمةً في التعقيد ولا يمكن أن تُحسم بتدخل جوي هنا أو بدعم فصيل معارض هناك أو حتى بتدخل بري محدود. وبجولة سريعة على أبرز أحداث وتطورات الأزمة السورية في السنوات الخمس الماضية نرى مدى تطورها وتغير موازين القوى بين فترة وأخرى. فقد بدأت في شهر أذار من العام 2011 ببضع كتابات وشعارات على بعض الجدران في مدينة درعا قام بمعظمها أطفال، إلا أنها توافقت حينها مع شعارات وتوجهات ما سمي بالربيع العربي في مختلف البلدان العربية لتتطور بعدها إلى تظاهرات وتنديدات جاءت رداً على ما قامت به أجهزة الأمن والمخابرات من تعذيب وتعسف بحق هؤلاء الصبية.

استمرت التظاهرات وبدأت تتوسع رقعة إنتشارها وازدادت معها إجراءات السلطة التعسفية وأعمال قمع المتظاهرين السلميين، لتتحوّل في شهري حزيران وتموز إلى أعمال عنف ومن بعدها إلى أعمال عسكرية. أول ما ظهر على الشاشة كتنظيم عسكري مسلح معارض هو الجيش السوري الحر وهو الذي تغذى من حالات الإنشقاق الكبيرة التي حصلت عن الجيش السوري النظامي. وبنتيجة شدة القمع والقصف الذي تعرض له المعارضون وعدم إكتراث العالم كثيراً بالأحداث السورية (عن قصد أو عن غير قصد)، بدأت الحركات المتشددة والإرهابية بالظهور، منها ما هو مكوّن من أبناء سوريا كأحرار الشام وجيش الإسلام وغيرهم والبعض الآخر قد لا يمت إلى القضية السورية بصلة، فهم عبارة عن مجموعات من الإرهابيين تجمعوا من مختلف أصقاع الأرض تحت إسم الدين الإسلامي الذي هو براء منهم حكماً، وأهم هذه التنظيمات هو داعش وجبهة النصرة بما تمثله من امتداد لتنظيم القاعدة.

وراء كل من هذه التنظيمات المعارضة كان يقف داعم لها أو داعمين بالمال والسلاح وغيرهما، وبدأت الأمور منذ ذلك الحين بالتعقيد أكثر فأكثر وأخذت أبعاداً طائفية ومذهبية على صعيد المنطقة ككل وأبعاداً دولية على كافة الصعد إنسانياً، إقتصادياً، سياسياً وحتى عسكرياً. وقد دفع تمدُد داعش وتوسعها بشكل سريع ومفاجىء في العراق وسوريا، الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول إلى تشكيل تحالف عسكري هدفه توجيه ضربات جوية لهذا التنظيم ولا تزال العملية العسكرية الجوية مستمرة إلا أن النتائج شبه معدومة. في الجهة المقابلة، وبعد مضي حوالي السنتين على بدء الأحداث وسيطرة الفصائل المعارضة على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية وتهديدها الحقيقي لبقاء النظام السوري بدأنا نرى بعض الأشكال للتدخل الإيراني المباشر في الأزمة، فمن مستشارين عسكريين معدودين رفيعي المستوى إلى بعض الوحدات الخاصة القليلة العدد أيضاً وصولاً إلى وحدات كاملة من حزب الله وبعض الميليشيات الشيعية العراقية.

ساهم هذا التدخل حينها في إعادة التوازن لموازين القوى عسكرياً على الأرض بين الطرفين، إلا أنه وبمرور الوقت وحالة الاستنزاف الدائمة للجيش السوري النظامي بدأ هذا المعسكر بالتقهقر مجدداً أمام ضربات الفصائل العسكرية المعارضة لا سيما المتطرف والإرهابي منها، وهذا ما حرك القيصر الروسي ودفعه بشكل مفاجىء للجميع (باستثناء الإدارة الأميركية) إلى إعلانه التدخل بالحرب وذلك بتوجيه ضربات عسكرية جوية للتنظيمات الإرهابية فقط إلا أن ضرباته طالت جميع فصائل المعارضة، ضمن مخطط استراتيجي محدد الأهداف مسبقاً. فما هي هذه الأهداف  وهل تحققت بشكل كافٍ ليُعلن عن انسحاب معظم القوات الروسية من سوريا؟

russia-warplane

لا يخفى على أحد أن التدخل الروسي جاء بعلم الإدارة الأميركية وربما بتنسيق وتخطيط مشترك، كما أن إنسحابها كان بنسخة مماثلة. إذاً البعد الإستراتيجي كان مشترك أما التكتيك والتنفيذ كان بشكل منفرد. فبقراءة لأحد الخبراء الإستراتيجيين رأى أن “الحليفين اللدودين” لا يريدا كسر لأحد المعسكرين في سوريا وأن كلاهما ومن خلفهما الكيان الصهيوني يستفيدا من إطالة أمد الحرب السورية، كما أن المعسكر الثالث (داعش والنصرة) لم يُخلق إلا بغية إعطاء الذرائع للتدخل عند تفوّق أحد المعسكرين على الآخر بشكل ملحوظ، فإذا عُدنا بالذاكرة قليلاً نرى أن نشأة داعش والتدخل الجوي الأميركي الدولي جاء بعد تدخل إيراني واضح (خبراء، حزب الله، الميليشيات الشيعية..) تبعته سلسلة “انتصارات” لهذا المعسكر وتصلّب بلهجته نحو الحل ووصوله بالتفكير إلى إعادة الأمور كما كانت قبل إندلاع الأحداث في سوريا، مما سمح باعادة الموازين على الأرض وتحقيق بعض الفصائل المتشددة والمعتدلة انتصارات في معارك أساسية (جسر الشغور، أرياف اللاذقية، درعا….) وأصبح النظام على قاب قوسين من الإنهيار أو أدنى وعاد الحديث هذه المرة من الأطراف المعارضة بأنها لا تقبل فترة إنتقالية وتريد إسقاط الأسد ومن ورائه مباشرةً.

أمام هذا الواقع الجديد وضيق الوقت المتاح في حينه، جاء التدخل الجوي الروسي بشكل مباشر وبفعالية كبيرة (على جميع أطراف المعارضة وبرضى أميركي وتنسيق إسرائيلي)، وقد نجح إلى حدٍ بعيد بإعادة خطاب المعسكر الثاني إلى العقلانية وقبوله بإتفاق لوقف إطلاق النار وبدخول المفاوضات بشكل جدي.

 إذاً تبدو هذه القراءة منطقية لا سيما أننا نلاحظ أن المعسكر الثالث أُبقي “ستاند باي” أي ذريعة جاهزة لمختلف التدخلات مستقبلاً فهو خارج إتفاق وقف إطلاق النار وخارج محاربته بشكل جدي بغية القضاء عليه. أما على صعيد الأهداف الروسية الفردية من تدخلها في سوريا فقد يكون هناك هدفان رئيسيان عملت عليهما وتحققا إلى حدٍ بعيد، الأول يقضي بفرض حضورها على الساحة الدولية وإلزامية مرور الحل في سوريا عبرها، والثاني ضمان منطقة نفوذ لها في الشرق الأوسط آخر معاقلها العسكرية في العالم، علماً أن تدخلها العسكري هذا لم يكلفّها أي من علاقاتها الدولية أو الإقليمية.

ختاماً، لا شك بأن نهايةً للأزمة السورية لن نشهدها قريباً إلا أن ما هو مؤكد أيضاً أن عجلة الحل قد إنطلقت ولو ببطىء، على أمل أن لا تكون على حساب وحدة الدولة والأرض السورية.