ثماني سنوات «إسرائيلية» في البيت الأبيض

عزت صافي (الحياة)

يشهد تاريخ العلاقات بين الدول العربية والولايات المتحدة الأميركية على أن جميع الرؤساء الذين حلوا في «البيت الأبيض» كانت سياستهم سيئة مع العرب، عدا رئيسين كانا الأفضل، نسبياً، أو الأقل سوءاً، وهما الجنرال دوايت إيزنهاور، وجون كنيدي.

وعلى رغم كوارث الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ومع كل ما أصاب الدول العربية خلالهما، وبعدهما، من احتلال وفتن داخلية، وإقليمية، ومؤامرات، كان أفظعها تقسيم فلسطين وإقامة دولة الكيان الإسرائيلي على أرضها المغتصبة، حافظت الدول العربية على «علاقة مميزة» مع الولايات المتحدة، حتى في النكبات والحروب التي شنتها إسرائيل على مصر، وسورية، ولبنان، وعلى الفلسطينيين الذين لا تزال تلاحقهم بطائراتها، وصواريخها، وبعمليات الغدر والاغتيال في ما بقي لهم من أرض، ورزق، وبيوت.

خلال ذلك الزمن المستمر، والدائم، كما في زمن الاتحاد السوفياتي الذي انقسم العالم العربي معه محورين: محور الغرب الواعد بالحرية والديموقراطية والقانون، والمحور السوفياتي الذي صدّر الى معظم الدول العربية أفكاره ومناهجه الثورية، مع الأسلحة والمعدات والخبراء العسكريين والمدنيين، ظلّت الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، الهدف الذي تتطلّع إليه معظم الدول والشعوب العربية.

حالياً يحضر المحوران الغربي والروسي فوق سورية، وعلى أرضها، في أغرب تحالف بين عدوّين تاريخيين. الأول يتمركز بقيادته وأساطيله الجوية والبحرية خارج حدود سورية، ومعه فرق النخبة في فنون التدمير من بُعد… والمحور الثاني ينتشر بجيوشه وأساطيله الجوية والبحرية في سماء سورية، وعلى شواطئها، وبفرق النخبة من خبرائه والقادة على الأرض، وفي غرف العمليات، دعماً وتحصيناً للنظام الذي يقتل شعبه، ويدمر مدنه، وجيشه، والقلاع، والمنشآت التي أُعدت لحرب تحرير الجولان واستعادة القدس.

هكذا نجح الوفاق الأميركي- الروسي في تدمير سورية كما لم ينجح في أي وقت مضى في بلاد أخرى. وقد كان الرئيس باراك أوباما ضيف الشرف في قمة قادة دول الخليج التي عُقِدت في 21 نيسان (أبريل) الماضي في مدينة الرياض، وكان عنوانها «أمن الخليج»، وكانت فرصة لأوباما اطلع خلالها على رؤية قادة المنطقة للوضع المتفجر في سورية بأبعاده الإقليمية والدولية، وهي رؤية واقعية، كما هي على الأرض، وفي أوراق مؤتمر جنيف، حيث يُستهلك الوقت من شهر إلى شهر، ومن سنة إلى سنة، بين مَن يده في النار ومن يده في مياه باردة.

ولا بدّ أن أوباما أدرك أن أمن الخليج ليس فقط أمن أهله، دولاً وشعوباً، إنما هو أيضاً ركن كبير من قاعدة وضمانة الأمن الإقليمي والأمن العالمي، بقطع النظر عن حجم الكتل والأحلاف الدولية، على اختلاف أنظمتها وإمكاناتها، واستراتيجياتها السياسية والاقتصادية.

وبالتأكيد لم تكن لدى الرئيس الأميركي اعتراضات أو ملاحظات على قرارات ومواقف تعود لدولة، أو أكثر، بل العكس هو الصحيح. ولا بدّ أن أوباما سمع وجهات نظر واعتراضات صريحة على مواقف وقرارات الإدارة الأميركية خلال السنوات الأربع الماضية، وقد سجّلت الاعتراضات خروجاً على القواعد التقليدية الثابتة بين دول الخليج والولايات المتحدة، وهي علاقات ترقى إلى مستوى المصالح الاستراتيجية المشتركة، ليس فقط بين واشنطن وعواصم دول الخليج العربية، بل بين عالم الغرب وهذه الدول مجتمعة، وامتداداً إلى دول عربية على حوض البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى الشطر العربي من شمال أفريقيا.

وإذ تحتفظ قضية فلسطين التاريخية بموقعها المتقدّم كضحية للغزو الصهيوني الآتي من الغرب الأوروبي والأطلسي برعاية الإدارات الأميركية، كما من الشرق الأوروبي برعاية سوفياتية- روسية، فإن قضية أخرى لا تقل خطورة عن قضية فلسطين برزت خلال العقود الأخيرة، وقد اخترقت الجغرافيا والديموغرافيا السياسية والأمنية والاقتصادية المشتركة في العالم العربي، وتتمثل بالخطر الناشئ عن الانفلاش العسكري الإيراني في بعض دول الخليج، وصولاً إلى لبنان، عبر العراق وسورية؛ فضلاً عن اليمن.

لا أحد من خارج الدائرة الضيقة للقاءات الثنائية بين قادة دول مجلس التعاون الخليجي والرئيس الأميركي، يعلم ماذا قال أوباما عن العلاقات التي استجدّت بين واشنطن وإيران بعد توقيع الاتفاق النووي معها، لكن أوباما يعرف، كما يعرف قادة دول الخليج، الدور السيء الذي لعبته الإدارة الأميركية في العام 1979، برئاسة جيمي كارتر الديموقراطي، مع شاه إيران المخلوع من جهة، ومع الثورة عليه من جهة أخرى. وفي محفوظات الأرشيف المشترك بين واشنطن وطهران، كدسات من الملفات التي تحفظ أسرار تلك الثورة في الجانبين الأميركي والإيراني، وأهمها الضغوط التي مارستها واشنطن على الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لإيواء الشاه المخلوع الذي كان تائهاً بين العواصم التي ترفضه، ثم الضغط على فرنسا في عهد الرئيس جيسكار ديستان لاستقبال المرشد الإمام الخميني الذي نظّم وقاد الثورة الإيرانية من بُعد، وكان أيضاً محكوماً بالتنقل قبل أن يستقر به المقام في ضاحية باريس (نوفل لو شاتو) التي تحوّلت إلى «مزار» يؤمه رجال ثورات منفيون، ورجال فكر وسياسة من مختلف الأقطار، فضلاً عن وسائل إعلام عالمية كانت تتقاطر إلى تلك «الفيلا» المركونة إلى جانب طريق عام.

فمن تلك «الفيلا» خرج الخميني إلى طهران في طائرة فرنسية حاملة الجمهورية الحديثة التي قامت، في البدء، على قيادات إيرانية مدنية عاش عدد منها في الغرب الأوروبي والأميركي، وتعلم في جامعاته، وفي أنديته السياسية والثقافية، فتمرّس بأصول الديموقراطية والحرية لتأسيس جمهورية مدنية تتعايش مع الشعب الإيراني، وتكون مؤتمنة على حقوقه، وعلى مستقبله، وطموحه لمجاراة التقدم، والانفتاح على العالم المتطور والمتجدد.

لكن ذلك الحلم الإيراني (كما ذكر وكتب أولئك الرواد، ومنهم من رافق الخميني في رحلة الجمهورية من باريس إلى طهران) تبدّد في لحظة هبوط الطائرة في مطار طهران، إذ كان في انتظار الإمام العائد رهط من رجال الدين، وما إن أطل على سلّم الطائرة رفع يده بالتحية والبركة للجماهير المحتشدة بمئات الألوف، ثم ما إن هبط درج السلّم وبارك الأرض حتى التف حوله رجال الدين وواكبوه إلى سيارة مصفّحة أقلعت بهم معه إلى داخل طهران. وكانت تلك المبادرة بمثابة بلاغ واضح موجّه إلى الشعب الإيراني فحواه أن السلطة في جمهورية الثورة هي لرجال الدين، وهذا ما تأكّد بالممارسة خلال العقود الأربعة الماضية من حكم المرشد الخميني، ثم الخامنئي… وهذه هي الرسالة الموجهة إلى دول وشعوب ما يسمى «الهلال الشيعي» من طهران، إلى العراق، إلى سورية، فلبنان.

أربع دول، وأربعة شعوب منكوبة بالحروب، والفتن، والشلل، والفراغ، والفقر، والكآبة، إلى درجة اليأس.

حدث كل ذلك على مراحل، وبالتمادي، وبالدم البارد الذي يسري في شرايين حكام هذه الدول، فيما الدم الحار يسيل من أجساد الشعوب على التراب، وعلى مساحات الخراب.

وللتذكير، فإن هذه النكبة، بأسبابها، وخلفياتها، تعود إلى زمن متدرج المراحل، لكن من أخطر أسباب تسارعها واستفحالها أنها ترافقت مع أصعب مراحل الصراع بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مناطق النفوذ في الدول العربية المتفجرة. وعلى الجانب الآخر الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي يبتز الرئيسين الساكنين في البيت الأبيض وفي الكرملين على حساب أوطان العرب. وهو ذهب إلى لقاء قمة مع بوتين في موسكو يوم ذهب باراك أوباما إلى قمة دول الخليج في الرياض، وكأن نتانياهو أراد أن يقول للجميع أن أوباما في جيبه وأنه (نتانياهو) في البيت الأبيض منذ نحو ثماني سنوات، وأن فلاديمير بوتين يحتاج إليه في مسار نكبة سورية. وتؤكد الوقائع ذلك التنسيق الدائم بين طلعات وطلقات الطائرات الحربية الروسية والإسرائيلية في الأجواء السورية.

ومع ذلك يحرص أوباما على تطمين دول الخليج، من دون أن ينفي أن لديه مخاوف خطيرة من تصرفات إيران بعد توقيع الاتفاق النووي. ويبقى عليه أن يمضي البقية الباقية من عهده في البيت الأبيض بأقل الممكن من المصائب والويلات للعالم العربي.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟