فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

عزت صافي (الحياة)

أعلنــــت موسكو أخيراً نيتها سحب أعداد كبيرة مــــــن قواعدهــــــا العسكرية البريّة والبحريّة والجويّة، في سورية. وقد جاءت تلك الإجراءات مع تقلّص العمليات الحربية التي شارفت على تدمير مقومات سورية، الدولة، والجيش، والشعب، والمدن، والأرياف، والثروات، والمؤسسات. فوفق الإحصاءات غير النهائية (لأن عمليات القتل والتشرّد والتدمير والنزوح مستمرة) فإن ثلث الشعب السوري بات موزعاً بين شهيد وضحية ولاجئ في جميع أقطار الأرض.

هل شارفت الحرب السورية على نهايتها بعدما شارفت مقومات الشعب السوري والدولة السورية على نهايتها؟ الوقائع تؤكد ذلك وصحّة السؤال.

فقــبل سورية استشــــهدت ليبيا وذهبت بجريرة قيادتها العسكرية التي سقطت أيضاً في أسوأ نهاية، وحُذفت ليبيا، كما حُذفت سورية، والعراق، من حساب حرب لم تعد في هذا الزمن واردة مع إسرائيل، ولا ننسى اليمن البائس في حروبه القبلية التي راكمت عليه الموت والفقر.

وفي هذا الوقت حان موعد إسرائيل مع الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب لإهدائها القدس الشريف عاصمة لها.

هكذا تمت الأعجوبة في ذكرى مئوية وعد بلفور وصار الوعد حقيقة. فهل لعاقل أن يتصور كيف يمكن أن يحدث ما حدث حتى الآن من دون «مؤامرة؟».

وفي هذا الوقت تظل وثيقة القمة العربية التي عُقدت في بيروت سنة 2002 صالحة لحل سلمي لازمة المنطقة. تلك الوثيقة كانت مبادرة أتى بها إلى القمة المغفور له الملك عبد الله بن عبدالعزيز، وكان في حينه ولياً لعهد المملكة العربية السعودية.

ومن المفيد استعادة بنود تلك المبادرة، وهي التالية:

«انطلاقاً من اقتناع الدول العربية بأن الحل العسكري للنزاع مع إسرائيل لم يحقق السلام أو الأمن لأي من الأطراف:

1- يطلب مجلس جامعة الدول العربية من إسرائيل إعادة النظر في سياساتها، وأن تجنح للسلم مُعلنة أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي أيضاً. كما يطالبها القيام بما يلي:

2- الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري، وحتى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.

3- التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.

4- قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران (يونيو) 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية.

«وعندئذ تقوم الدول العربية بما يلي:

1- اعتبار النزاع العربي- الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.

2- إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.

3- ضمـــان رفــــض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.

4- يدعو المجلس حكومة إسرائيل والإسرائيليين جميعاً إلى قبول هذه المبادرة المبينة أعلاه حماية لفرص السلام وحقناً للدماء، بما يمكّن الدول العربية وإسرائيل من العيش في سلام جنباً إلى جنب، ويوفر للأجيال القادمة مستقبلاً آمناً يسوده الرخاء والاستقرار.

5- يدعو المجلس المجتمع الدولي بكل دوله ومنظماته إلى دعم هذه المبادرة.

6- يطلب المجلس من رئاسته تشكيل لجنة خاصة من عدد من الدول الأعضاء المعنية والأمين العام لإجراء الاتصالات اللازمة بهذه المبادرة والعمل على تأكيد دعمها على المستويات كافة وفي مقدمها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والاتحاد الروسي والدول الإسلامية والاتحاد الأوروبي».

ولعل أصعب وأسوأ ما في أمر القدس أن يأتي القرار الأميركي بتطويبها «عاصمة إسرائيل» في أصعب وأسوأ حال تمرّ فيها الدول العربية، من سورية إلى العراق إلى اليمن، فمصر وليبيا، قبل انعطافه على البقية الباقية من أرض فلسطين (العربية) وما عليها من منظمات، و «دويلات»، و «حكومات» و «قيادات» ونزاعات على سلطة، وعلى قرار.

ولقد كانت «المؤامرة» مدبّرة بتأنٍ وإتقان، بدءاً من انتخاب دونالد ترامب في عملية تزوير كبرى تحدثت عنها الدوائر السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، وفي سائر أنحاء العالم: دونالد ترامب فاز على منافسته هيلاري كلينتون بخطة قرصنة روسية اخترقت شبكة التصويت الإلكتروني في انتخابات الرئاسة الأميركية، وحوّلت مئات آلاف الأصوات من حساب كلينتون لحساب ترامب.

هل كان يمكن أن يقوم جهاز المخابرات الروسية بتلك العملية التي نفذها، ونفاها، من دون أمر المرجع الأعلى في الكرملين، وهو الخبير المدرب والمتميز الذي قاد جهاز الـ «كي جي بي» في زمن الاتحاد السوفياتي؟

وهل كان لتلك العملية أن تُطوى، ولو موقتاً، لو لم يكن اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس والإدارة الأميركية متدخلاً في إخراجها وحفظها بانتظار العودة إليها بعد مرور الزمن؟

هي «ضربة» إسرائيل الثانية بتحقيقها حلم «القدس العاصمة» في عهد دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو بعد قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في عهد هاري ترومان ودايفد بن غوريون سنة 1948.

ليس دونالد ترامب أول رئيس أميركي يقدم أوراق اعتماده إلى إسرائيل، فقد سبقه رؤساء كانوا عملاء للصهيونية، وأولهم وأبرزهم هاري ترومان الذي في عهده صدر قرار هيئة الأمم المتحدة بإنشاء «دولة إسرائيل» على أرض فلسطين في العام 1947 من القرن الماضي، وبعده كانت الحرب العالمية الثانية، وها أن إسرائيل بعد سبعين سنة على تأسيسها وبعد خمس حروب أشعلتها (1948– 1956– 1967– 1973– 1982) تتهيأ للاحتفال بعيد القدس «عاصمة الشعب اليهودي منذ ثلاثة آلاف سنة، وعاصمة إسرائيل منذ سبعين سنة» على ما زعم الوزير الإسرائيلي نفتالي بينيت!!

كارثة قومية على العرب، لكن يبقى القرار والعزم على المقاومة والتصدي.

لقد كان لي الحظ أن أكون ضمن وفد صحافي لبناني لزيـــارة الأردن وفلسطيـــن في صيف العام 1956 بدعوة من الديوان الملكي الأردني في عهد المغفور له الملك حسين.

أقمنا في فندق «سميراميس» في عمان، وكان اللقاء الأول مع رئيس الحكومة الأردنية في ذلك الزمن سمير الرفاعي، ورئيس الديوان الملكي بهجت التلهوني، وقائد الجيش اللواء هزّاع المجالي.

وكان لنا يوم في القدس والضفة الغربية، وقد عبرنا جسر «اللنبي» إلى القدس ونزلنا في فندق «آمباسادور» المطل من ربوة على المدينة المقدسة، وكان لنا أن نطل من شرفته على القدس، فنرى الأماكن المقدسة: المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، والأحياء الشعبية العربية، واليهودية، والأحياء المختلطة، وقد زرنا معظمها، كما زرنا «بيت لحم» وكنيسة مهد السيد المسيح، ومدينة رام الله، والأسواق القديمة والأبواب التاريخية للمدينة المقدسة.

وكانت المفاجأة أن تتاح لنا فرصة لزيارة خط الهدنة الفاصل بين الأراضي والبيوت الفلسطينية من جهة، والبيوت والأراضي اليهودية من جهة أخرى في بلدتي «بيت صفافا» و «بيت جالا»، وعلى ذلك الخط شاهدنا الجندي الإسرائيلي من جهة، والجندي الأردني الفلسطيني من جهة أخرى، وبينهما شريط قليل الارتفاع. وفي أحد الأحياء توقف بنا مرافقنا الدليل أمام منزل عادي قائم على خط الفصل بين الفلسطيني واليهودي، وتقيم فيه عائلتان لشقيقين فلسطينيين يفصل بينهما جدار داخلي. الشقيق الأول ويفتح بابه على الحي العربي، والباب الآخر يفتح على الحي اليهودي.

وفي يوم العودة كان لنا لقاء مع المغفور له الملك حسين في قصره في أعالي عمان، وكان الملك في منتهى الود والاحترام. قال لنا: لقد دعوناكم لتشاهدوا بأم العين فلسطين على الطبيعة، أرضاً، وشعباً، وقضية. ولتروا جيشنا الأردني– الفلسطيني في وجه العدو، وأنتم صحافيو لبنان حملة أقلام الحرية والعروبة والنضال.. فأهلاً بكم، وشكراً لكم. شرفتمونا..».

تصرخ «فيروز» لبنان والعرب برائعة شاعر لبنان وفلسطين سعيد عقل، متجهة إلى القدس:

«الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان».

لكن من أين الطريق إلى القدس بعد الأمس؟

وأين فلسطين على الخرائط؟

هناك فلسطين الأولى على الرقعة الخضراء المنبسطة بين النهر والبحر في الزمن العثماني.

وهنــاك فلسطــــين الثانية على خريطة زمن الانتداب البـــريطاني، وبعـدهــا خريطة ما بعد الاحتلال الإسرائيلي.

وأخيراً، وليس آخراً، فلسطين الثالثة الآن مرسومة على خريطة موقتة في عالم عربي آخر مجهول المستقبل والمصير…

ومثل هذا الكلام لا يدعو إلى اليأس، بل العكس، فهذه المرحلة التي يعبرها العالم العربي لا بد أن تولّد عالماً عربياً آخر.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟

«قنبلة الإسكوا» تكشف موقف المنظمة الدولية من فلسطين