الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

عزت صافي (الحياة)

يوم العاشر من أيار (مايو) الجاري وصل الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرانسوا هولاند إلى حديقة «لوكسمبورغ» في باريس للاحتفال باليوم الوطني لإنهاء العبودية، ولاقاه الرئيس المنتخب إيمانويل ماكرون الذي وقف إلى جانبه وهو يلقي الخطاب الأخير في عهده ويحض الفرنسيين على مواصلة العمل لتحقيق المصالحة في «فرنسا المنقسمة على ذاتها وتهبّ عليها ميول معادية للجمهورية». كان الحشد كبيراً في الحديقة الباريسية التي تشرّع أبوابها ومرابعها وظلالها وبحيراتها للعائلات والمتقاعدين والطلاب والسياح، وكان هناك جمهور منظم مختلط الألوان، وقد ارتفع من مقدمته صوت موجه إلى الرئيس ماكرون يقول له: «نحن الجزائريين الفرنسيين نفخر ببلادنا الأم وبشعبنا، ونفخر بأن تكون رئيسنا».

ذلك الصوت واحد من ملايين الجزائريين الذين يصوّتون في بلادهم وفي فرنسا خلال الانتخابات النيابية والرئاسية، لكن النسبة الأعلى من أصواتهم تذهب إلى الانتخابات الفرنسية، وهذا ما حصل في الانتخابات الأخيرة في الجزائر. ثم في فرنسا.

هي علاقة قديمة معقدة ودائمة بين الشعبين الجزائري والفرنسي تعود بداياتها إلى نحو قرن وثلاثين سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر حتى حرب التحرير والاستقلال في العام 1961، وهناك أكثر من مليون شهيد جزائري في تلك الحرب الأطول في التاريخ الحديث لشعوبُ العالم، وخلفهم مئات ألوف الجرحى ومجهولي المصير. أما الخسائر المادية للجزائريين فلا تُحصى ولا تُعد، وأما الخسائر الوطنية والمدنية فهي الأعلى، ذلك أن الشعب الجزائري دخل عهد الحرية والاستقلال فقيراً موزعاً بين البلاد- الوطن وفرنسا ومستعمراتها، وهو كاد يخسر لغته وتراثه المدني والحضاري. لذلك فإن صموده الطويل، الفادح الكلفة، بشرياً ومادياً، جعله يستحق حريته واستقلاله بافتخار وطني وقومي، فهو الشعب العربي الوحيد الذي نال حريته واستقلاله بالشهادة، وليس من يماثله إلا الشعب الفلسطيني الذي يخوض منذ نحو قرن صراعاً دامياً لا يعرف أحد متى تكون نهايته، وعلى أي مصير.

لكن كل تلك الشهادات وكل تلك العقود من الفداء والعطاء والضحايا التي بذلها الشعب الجزائري تتجمع في هذه المرحلة من الزمن الجزائري لتطرح سؤالاً: أهذا ما تستحقه الجزائر، شعباً وبلاداً، في وضعها الراهن وشبه الدائم، منذ بداية عهد الحرية والاستقلال حتى اليوم؟ الجواب: خيبة أمل، ليس بالشعب الجزائري، بل بمن تولى أمره، عهداً بعد عهد، وجيلاً بعد جيل.

ذلك أن الجزائر مُقيمة في الوجدان العربي ذكرى نبيلة مقدسة وراسخة، ومتوارثة من جيل إلى جيل، وعبر التاريخ الذي يطوي الرؤساء والحكام والأجيال، لكنه لا يطوي الحقائق. ففي كل مدينة عربية ذكرى لا تمحى من زمن الانتصار لثورة الجزائر بين عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وفي الذاكرة صوت كان يدوّي في تظاهرات بيروت مستنفراً العالم العربي صارخاً: «أعطوا الجزائر اليوم تُعطكم غداً…».

فماذا أعطت الجزائر، وماذا تُعطي، منذ 56 سنة استقلالية غير النزاعات الداخلية بين الشعب والحكم، وغير الاتهامات بالفساد والاستغلال والتحكم والعجز والديون، والصراع مع السلطة المتمثلة بالجيش المتهم الدائم بالقبض على كل مفاتيح القرار والأمر؟ بحكم مهنتي الصحافة تيسرت لي زيارات عدة للجزائر بين أعوام 1987 و1992. وأثناء قمة عربية عُقدت في المملكة المغربية تيسر لي أن ألتقي محمد بوضياف، أحد الأبطال الجزائريين الخمسة الذين قادوا حركة التحرير. كان جالساً منفرداً في زاوية من «فندق حسان» في الرباط. لم أكن أعرفه. وكان معي زميل فرنسي قال لي همساً وهو يشير إلى تلك الزاوية: «ذاك الرجل الجالس هناك منفرداً ينظر من خلف الزجاج إلى الشارع هو محمد بوضياف المبعد من الجزائر بعد انتصار الثورة والاستقلال. إنه عاصٍ على الصحافيين. يرفض الكلام معهم، حتى أنه لا يردّ لهم التحية. فإذا استطعت أن تحادثه تسجل سبقاً صحافياً مهماً». وقد أخذت كلام الزميل الفرنسي بجد، وانتظرت حتى خفّ وجود الصحافيين في صالون الفندق فاتجهت نحو الرجل الذي كان لا يزال ينظر إلى الشارع من خلف النافذة الزجاجية. وقفت على مسافة منه وألقيت عليه التحية الجزائرية الشعبية: سْلام عْليك يا بوضياف… فالتفت نحوي وقد باغته صوتي، وبدا العبوس على وجهه وهو يسأل: «واش تكون؟»… أي «من أنت؟». قلت له: أنا صحافي لبناني أتابع مؤتمر القمة العربية المنعقدة هنا في الرباط. هل تسمح لي بالجلوس معك؟.. فخفض نظره، ثم قال وهو يهزّ رأسه ويؤشر إلى المقعد المقابل له قائلاً: تفضل… وما إن جلست حتى نبّهني» ما نتكلمش بالسياسة ولا بأي شيء»!

كان بوضياف مبعداً من الجزائر بقرار من المجلس العسكري الذي تسلّم الحكم مع بداية الاستقلال، فسألته: ألا تشتاق إلى البلاد- الجزائر؟..

أطرق بوضياف، ولاحظت أنه يمضغ ريقه، وحين عاد ونظر إلي أعدت عليه السؤال، فقال: اسمع… أنا هنا لاجئ سياسي أعيش مع عائلتي في مزرعة ليست بعيدة من هنا عن الرباط العاصمة… وإذا سألتني كيف أعيش أقول لك أننا نعيش من مردود معمل آجور (قرميد).

وإذ سكت عاد يتطلّع إلى الخارج… ولم أقطع عليه صمته ورؤيته، حتى عاد يتطلّع إلي ولا يتكلّم… إلى أن قال بصوت خافت: أنا هنا أسير بأمر من دولة بلادي… وأنا وعائلتي مدينون لدولة جلالة ملك المغرب.

ولم ينته اللقاء مع بوضياف إلا وكان قد أفرغ ذاكرته من مخزونها الجزائري في زمن ثورة التحرير وسيرة أركانها الخمسة، خصوصاً أحمد بن بلّه، في عملية خطف طائرتهم في الجو يوم كانوا عائدين من القاهرة إلى مطار دولة أفريقية. وفي نهاية حديثه قال لي: «أنا وثقت بك فلا تخيّب أملي» ووعدته بالوفاء، ثم ودّعته لاجئاً سياسياً في المغرب، ولم يكن في حسابي، أو حسابه، أن يكون لنا لقاء آخر، وكان اللقاء الآخر والأخير مع محمد بوضياف رئيساً للجمهورية الجزائرية في قصر «المرادية» في أعالي عاصمة الثورة التي استقطبت عواطف ووجدان العالم العربي وسائر عواصم دول شعوب العالم الثالث زمن كانت تواقة للتحرّر من الاستعمار، وكانت واثقة بالنصر الذي أحرزته ثورة الجزائر. كان بوضياف قد استعاد اعتباره رئيساً بطلب واعتذار من جبهة التحرير الوطني بعد عزل الرئيس الشاذلي بن جديد.

وفي ذلك القصر وقفت إلى جانب الرئيس بوضياف خلف زجاج النافذة المطلّة على العاصمة الجزائرية، وسألته: هل كنت تأمل أن تعود حرّاً إلى جزائر حرّة، وأن تكون رئيساً للجمهورية؟

لم يجب عن السؤال، فقد أغفله ليقول لي وهو يجول بنظره على المشهد الخارجي: لم تتغير الجزائر العاصمة، لكن الجزائريين تغيروا. ثم أوضح: أعني أن أجيالاً جزائرية ذهبت وأجيالاً جديدة أتت.

وسألته: إذا خطر لك أن تخرج الآن من القصر وتروح تمشي في شوارع الجزائر وأحيائها القديمة التي احتضنت بواكير الثورة، والباقية على ما هي ما عدا بعض وجوهها، فهل تعتقد أنهم يعرفونك؟ أجاب وهو يتطلّع عبر النافذة: أظن أنهم شاهدوني عبر شاشة التلفزيون.

كانت قد مضت بضعة أسابيع على جلوس بوضياف على مقعد رئاسة الجزائر ولم تكن عائلته قد اكتملت حوله في قصر «المرادية»، وكان في فمي سؤال صعب. كنت أحاول أن أسأله: هل تخشى الاغتيال؟ وعدت وطرحت عليه السؤال: هل تخشى الموت سيدي الرئيس؟ لم يجب. لكنه أمسك بيدي وعاد ليجلس على مقعده، وجلست وأنا أنظر في عينيه منتظراً الجواب، إلى أن قال: شوف… أنا أنسان مؤمن. لا أخشى الموت، ولا أطلبه. وأمنيتي أن أعيش بقية عمري في بلادي الجزائر، وأن أُدفن فيها. أما إذا كان قدري خارج الجزائر فدعائي أن أُدفن في أرض بلاد إسلامية.

… وكان قدر الرئيس المؤمن محمد بوضياف أن يموت قتلاً برصاص حارسه الشخصي الذي كان يقف خلفه في احتفال شعبي فيما كان بوضياف يلقي خطاباً على المنصة، وكان الآمر المأمور المتهم بالقتل ضابطاً في الجيش وشهيراً باسم مركب (الكولونيل توفيق) الذي كان «ينظّم» الانقلابات، وقد أمر الرئيس بوتفليقة أخيراً بإنهاء خدماته.

كان بوضياف قد عاد إلى الجزائر بعد انقلاب الجيش على الرئيس الجنرال الشاذلي بن جديد الذي تغاضى عن صعود «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» حتى تمكنها من اكتساح المجالس البلدية في انتخابات أسفرت عن فوز الجبهة بنسبة تسعين في المئة من بلديات العاصمة والمناطق. تلك النتيجة كانت بسبب تردي أوضاع الجزائر الاقتصادية والاجتماعية والزراعية إلى درجة متدنية. ففي ذلك العام (1992) كان عدد سكان الجزائر 23 مليوناً، وكان العجز المالي العام قد رفع منسوب الدين على الدولة إلى 23 بليون دولار. وفي تلك المرحلة كانت نسبة العاطلين من العمل تبلغ درجة مفجعة، وفي ذلك الزمن عمّت الجزائر ظاهرة «الحيطيست» التي تعبر عن لجوء آلاف الشبّان الجزائريين إلى الشوارع لعدم وجود أماكن للنوم في بيوتهم، فكانوا يجلسون على الأرصفة ويسندون ظهورهم إلى الحيطان، ويغطون في النوم حتى الصباح.

تلك الظاهرة لم تختف من شوارع الجزائر بعد، ولا تزال نسب العاطلين من العمل مرتفعة، وقد ازداد عدد الشعب الجزائري ملايين إضافية، والعلّة تتفشّى في أجهزة الدولة وفي أوساط الحكم، وعلى هذا الوضع السيء جاءت نتائج الانتخابات الاشتراعية الأخيرة (4 أيار) الجاري لتضع الجزائر أمام مرحلة «ملغمة». وقد خاب أمل الجزائريين بالنتائج التي أعلنتها السلطة. فحسب النتائج الرسمية حصل التحالف الحاكم على الغالبية المطلقة من المقاعد، مع العلم أن نسبة الممتنعين عن التصويت قاربت ثلثي عدد الناخبين المسجلين، ما يعني أن ثلث الجزائريين توزعت أصواتهم على جبهة الحكم وحلفائه وسائر الأحزاب والهيئات، ومعظمها يعود ريعه الانتخابي إلى حزب «جبهة التحرير الوطني» برئاسة الرئيس عبدالعزيز بو تفليقة الممدد رئاسته أربع دورات ويستعد لدورة خامسة وهو مريض على كرسي متحرك، وعلى هذا الكرسي نُقل إلى مركز اقتراع ليدلي بصوته. شفاه الله . ولا بدّ من الانتباه إلى أن جبهة التحرير اتخذت اسمها من مرحلة ثورة الجزائر الخالدة في الستينات من القرن الماضي، ولا تزال متمسكة به، في حين تمضي المنظمات والهيئات والأحزاب الإسلامية بتعزيز انتشارها ونفوذها، وأبرزها «حركة مجتمع السلم» و «اتحاد العدالة والبناء» و «جبهة حمس» القريبة من «جبهة حماس» الفلسطينية.

أين ذهبت مئات ألوف الجماهير الجزائرية المعارضة يوم الانتخاب (4 أيار)؟… لعلها ذهبت إلى النوم. أو لعلها تحولت إلى متابعة أخبار معركة الرئاسة الفرنسية التي فاز فيها إيمانويل ماكرون بشعار: «الجمهورية إلى الأمام».

ولعلّ صوت ذلك الشاب الجزائري الذي توجه إلى الرئيس ماكرون في حديقة «لوكسمبورغ» هو صوت الجزائريين الممتنعين الطالع في بلادهم: نحن الجزائريين الثابتين في بلادنا الأم نفخر بشعبنا وببلادنا، ونأمل بأن يكون لنا حظ الشطر الآخر منا في فرنسا!! رحم الله الرئيس الجزائري محمد بوضياف الذي جنت عليه جبهة التحرير الوطني يوم أبعدته عن بلاده بعد نيل استقلالها بفضل دماء مجاهديها، وهو منهم، ثم عادت الجبهة واستعادته رئيساً للجمهورية، ومنحته بضعة أشهر رئاسية، ثم جاء الأمر من مرجع ما بقتله.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟

«قنبلة الإسكوا» تكشف موقف المنظمة الدولية من فلسطين