لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

عزت صافي (الحياة)

منذ ما قبل الاستقلال، وما بعده، لم يحظ رئيس جمهوريــة لبناني بشهرة تداني الشهرة التي يحظى بها الرئيس ميشال عون، وإذا كان ثمة تاريخ تقريـبـي لبداية زمن شهرته فالتاريخ يـعود، على الأقل، إلى الأسبوع الأخير من أيلول (سبتمبر) 1988 ليلة سطّر رئيس الجمهورية المنتهية ولايته أمين الجميل مرسوماً بتكليف قائد الجيش آنذاك الجنرال ميشال عون تشكيل حكومة موقتــة لإدارة شؤون البــلاد ريثما يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

في تلك الليلة التي يُعاد التذكير بها، سقطت الجمهورية والبلاد في مأزق غير دستوري، فكانت بداية الفراغ– الفوضى التي دامت سنتين عاش خلالهما اللبنانيون موزعين ومبعثرين بين حكومة برئاسة الدكتور سليم الحص، وكانت دستورية وشرعية وحائزة ثقة مجلس النواب، وحكومة أخرى عسكرية تألفت من ستة وزراء ضباط استقال اثنان منهم فور صدور المراسيم التي اعتُبرت باطلة، لكنها استمرت بقوة الأمر الواقع، إلى أن تم «اتفاق الطائف» في المملكة العربية السعودية وجرى انتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية فسقط شهيداً على عتبة عيد الاستقلال لأنه أتى من دون موافقة النظام السوري المسبقة.

تاريخ كارثي لرئاسة الجمهورية اللبنانية نال منه الجنرال عون نصيبه، وكاد يذهب شهيداً تحت ركام قصر بعبدا لأنه رفض طاعة الأمر السوري الذي تلقاه بالصواريخ، وما كان أمامه باب للخلاص إلا بمغادرة البلاد إلى فرنسا ليعود منها بعد نحو 15 سنة كان خلالها ناشطاً من أجل لبنان حر مستقل من دون وجود سوري عسكري.

لكن ما كان لذلك الهدف أن يتحقق إلا باستشهاد رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري، وبعده مضت كوكبة من رفاقه على دربه، وها أنّ عهد الرئيس عون يجهد لينهض بحمل الجمهورية، وقد استعان بـ «لقاء حوار بعبدا» ليشرك أركان المال والاقتصاد والإنتاج والإدارة والقانون والاشتراع في ورشة النهوض بقانونين يتوقف على تصديقهما نجاح العهد في انطلاقته الإصلاحية والإنمائية (سلسلة الرتب والرواتب والضرائب)، لكن غائباً عن الحوار كان في الشارع، ممثَّلاً بهيئات نقابية ومصالح مختلفة، وقد رفع صوته منادياً بالعدل، إلا أن صوته كان أضعف من أن يبلغ قصر بعبدا.

هي سابقة أقدم عليها الرئيس ميشال عون لضمان سلامة توقيعه على قانونين تطاول مفاعيلهما آلاف المؤسسات الاقتصادية والمالية والتربوية ومئات آلاف الأفراد المتعاملين والملتزمين مهمات تلك المؤسسات.

لكن هذه السابقة قد تتحول «قاعدة» تلزم رئيس الجمهورية باللجوء إلى «ندوة بعبدا» للنظر في قوانين أو مشاريع قوانين محالة على «ندوة البرلمان» أو صادرة عنها.

وطبعاً، «الندوة» سوف تتبدل هيئتها واختصاصها بتبدل القضايا المحالة عليها، فلا يعود التمثيل الشعبي حكراً على النواب المنتخبين. بل إن «ندوة بعبدا» يمكن أن تغني الرأي العام اللبناني بخبرات نخب من أهل العلم والاختصاص من دون أدنى كلفة يتحملها الشعب، ولا بدّ لتلك النخب من أن تعطي شعبها ومؤسساتها العامة أفضل ما تملك من الخبرة والتجربة.

قد يكون لبنان الوطن الأول في العالم الذي يسجل أعلى رقم في الدعوة الدائمة إلى الوحدة الوطنية والى التضامن والتعاون. فالحكام والزعماء السياسيون، ورؤساء الأحزاب، ورجال الدين، والنقابيون، وممثلو الهيئات والجمعيات الخيرية، كلّهم يلتقون على ضرورة نبذ الخلافات للارتفاع فوق المصالح الشخصية والنزعات الطائفية.

وإذا كان لهذه الظاهرة، أو «العادة القديمة» معنى، فهو أن العلاقة بين الحكام والشعب متوترة على الدوام، كما بين الزعماء والنواب وأهل السياسة، بجناحيها الحاكم والمعارض. وتظل هذه الظاهرة مقبولة حتى تصطدم بلغم مطلب طائفي أو مذهبي فتنفجر، وهذا ما حصل في إحدى جلسات «الحوار الوطني» التي كانت تُعقد في مجلس النواب في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي برئاسة رئيس المجلس نبيه برّي. ففي جلسة الخامس من أيلول 2016 تغيّب رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النيابي العماد ميشال عون فناب عنه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي فاجأ رئاسة المجلس والحضور بإعلانه: «إننا كتيار وطني حر سنعلّق مشاركتنا في جلسات الحوار لأن هناك مواصلة واستمراراً للانتقاص من حقوق المسيحيين ومن الميثاقية في تمثيلهم»!

وكان ممكناً لمداخلة باسيل أن تمرّ من دون ردّة فعل لو لم يتابع ليقول: «هناك استخفاف بالميثاقية، وبحقوق المسيحيين التي تتآكل يوماً بعد يوم». ثم نبّه: «فإما أن نأخذ حقوقنا ويتم الالتزام بالميثاقية، وإلا فإن هذه الميثاقية كذب. تتحدثون عنها ولا تطبقونها، وبالتالي الاعتراف بالآخر كذب…».

عند ذلك الحد تدخّل الرئيس برّي لينبّه جبران باسيل: «هذا أخطر كلام سمعته منذ انتهاء الحرب في لبنان..»، وأضاف: «بل أخشى أن يفضي ما أسمعه الآن إلى حرب أهلية في بلد أعتبره الأقوى لأنه انتصر على إسرائيل وحرّر أرضه..»

لم تستمر جلسات «الحوار الوطني» في مجلس النواب، ولم تسفر عن نتائج أكثر فائدة من جلسات العقد العادي. فهل يكمل الرئيس ميشال عون «لقاء حوار بعبدا» لتصحيح ما أمكن من خلل في مسيرة الحكم، وتوفير النصح والتوجيه والدعم للخطوات الإصلاحية؟؟

من الممكن لـ «لقاء حوار بعبدا» أن يتوسع فيفتح نافذة على الخارج الأميركي والأوروبي والآسيوي لدعوة مراجع أكاديمية مشهود لها بالعلم والقانون والعدل، والاقتصاد والإنماء والإصلاح، في الأنظمة والأحكام الديموقراطية والمدنية لاستضافتها في ندوات مشتركة مع نخب من أمثالها اللبنانيين. وهناك أيضاً رؤساء دول وحكومات ووزراء سابقون كانت لهم فرص في خدمة أوطانهم وشعوبهم، وقد ساهموا في دفعها وارتقائها إلى مصاف دول العصر المستقرة والقوية والمحترمة.

فلبنان بحاجة إلى التعلّم والتفاعل والتعاون مع أولئك «الآخرين»، بل إن لبنان في وضعه الراهن قد يكون أحد البلدان القليلة في العالم التي لم يتفق أهلها بعد على مفهوم موحد لمعنى «الوحدة الوطنية». لكن لبنان وطن فريد ومميز بأن معظم السياسيين والمسؤولين فيه يجعلون «الوحدة الوطنية» لازمة للبداية وللنهاية في كل تصريح أو خطاب، ولا يسألهم أحد، في ما بعد، كيف تتم ارتكابات التفرقة والإثارة العصبية في سبيل الوصول إلى، أو الاحتفاظ بما أمكن من موارد السلطة والنفوذ.

لكن لحاملي الهوية اللبنانية أكثر من «وطنية» واحدة. ولكل «وطنية» مفهومها وفلسفتها التاريخية والقومية والعقائدية. ومع أن دستور «الطائف» ثبّت الكيان اللبناني نهائياً، واعترف بعروبته، فإن هناك أحزاباً وجماعات لا تزال تعتبر هذا الكيان جزءاً من «كل» أكبر، ولا تمانع في الالتحاق به والذوبان فيه. هذه الحقائق موجودة ضمن الكيان اللبناني، وهي ليست نظريات، بل هي عقائد ثابتة. وما من أحد يستطيع أن ينكر هذه الحقائق الكامنة والفاعلة في عمق الكيان اللبناني، وما من أحد إلا ويؤكد التمسّك بالوحدة الوطنية ضمن هذا الكيان. ولكن هل تعني هذه «الوحدة» في واقعها أكثر من أنها حالة «عيش مشترك»؟

مع ذلك، لا تزال «الوحدة الوطنية» شعاراً مرفوعاً بين طائفة وطائفة، وبين منطقة ومنطقة، بل بين حي وحي داخل المدينة الواحدة أو البلدة الواحدة، واللبنانيون مدمنون على إقامة أعراس الوحدة الوطنية تكريماً وتشريفاً لمن يعلن محبته واحترامه للآخر من شعبه وأهل وطنه، كأنما العيش في لبنان بأمان واستقرار منّة يجود بها القادر على سحب الأمان والاستقرار من حياة الناس.

لذلك، إذا كان لا بدّ من «الرشد» للجمهورية اللبنانية، فقد أقدم الرئيس الجنرال عون على مبادرة فتح صالون بعبدا لـ «لقاء حوار» مع أولياء الأمر والخبرة والمسؤولية من القطاع الخاص والقطاع العام.

وإذا كان للرأي العام أن يقدم مطلباً واحداً، فمطلبه إنشاء محكمة خاصة لملاحقة «وحش الفساد» في الدولة وفي القطاع العام، والقطاع الخاص، للقضاء عليه.

فهل هذا معقول؟ هل هو ممكن؟! أخطر ما يميز ذلك الوحش إنه منظّم، ومقونن، ولاطائفي، كما إنه عابر كل الدوائر، والمؤسسات، والطبقات، من أعلاها إلى أسفلها… فمن يقدر عليه؟

لكن، أيضاً ولكن، لا بدّ أولاً من توحيد «الدول» اللبنانية، ففي بيروت الدولة العاصمة الأم، ثم هناك دولة ووفد في دمشق، ودولة ووفد في الرياض، ودولة ووفد في طهران، وكذلك في موسكو، وفي بكين. وقريباً دولة لبنانية ووفد في بيونغيانغ.. فلكل عاصمة دولة، ووفد، وخطاب… يحيا لبنان!

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟

«قنبلة الإسكوا» تكشف موقف المنظمة الدولية من فلسطين