ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

عزت صافي (الحياة)

لا تستقيم المقارنة بين رئيس فرنسا الجديد إيمانويل ماكرون ورئيس فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الجنرال شارل ديغول. ماكرون أتى من وظيفة إدارية إلى قصر «الإليزيه»، والجنرال ديغول أتى من قيادة الحرب العالمية الثانية وعلى صدره نياشين النصر على الطاغية الألماني هتلر. ماكرون كان فتى مراهقاً في الخامسة عشرة من عمره عندما عشق معلمته المتزوجة ولها ثلاثة أولاد، ثم تزوجها وعمره 18 سنة وعمرها 42 سنة بعدما تطلّقت من زوجها والتحقت به مع أولادها. هذه تفاصيل شخصية لا يعيرها الفرنسيون اهتماماً. فما يعنيهم هو الرئيس وشخصيته وإمكاناته ودوره في قيادة فرنسا الجمهورية والشعب والتاريخ والمستقبل.

لكن الرئيس ماكرون لم يتأخر في تحصيل علامات سيئة على دوره في داخل فرنسا ثم في المدى الخارجي. ففي الداخل اصطدم عاجلاً مع رئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال بيار دو فيلييه الذي لم يتحمل رأي الرئيس الشاب الذي طرحه عليه بصيغة الأمر في مسألة تتعلق بموازنة القوات المسلحة. كان صعباً على الجنرال أن يفرض عليه الرئيس رأيه الحاسم في مسألة ليست من اختصاصه، فقدم استقالته.

لم تمر استقالة الجنرال دو فيلييه من دون ردّات فعل سياسية وعسكرية. ذلك أن الجنرال (المستقيل غاضباً لكرامته ومكانته) يحظى بتقدير القادة العسكريين في الجيش الفرنسي، وهو قد عضّ على جرحه عندما قال له الرئيس أمام بعض الضباط عشية الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي (14 أيار- مايو الماضي): «أنا رئيسك…» ولم ينفعل القائد، بل قال بهدوء: إن الجيش الفرنسي لا يتحمل خفض مخصصاته، وأضاف منبهاً: لا يمكن للجيش الفرنسي أن يستمر بهذا الشكل.

قبل ذلك، كان ماكرون قد قام بخطوة سياسية- عسكرية ناقصة على صعيد أزمة النظام السوري، وكانت قد بدأت إيجابية بإعلانه ضرورة تخلي بشار الأسد عن الرئاسة لكي يستعيد الشعب السوري قراره الوطني ويعيد بناء دولته ومؤسساته. وبذلك الموقف كان ماكرون قد تابع الخط الذي سلكه سلفه الرئيس المنتهية ولايته فرنسوا هولاند الذي اتخذ باكراً قراراً بمشاركة فرنسا في التحالف الدولي الأميركي- الأوروبي لتخليص سورية من نظامها.

لكن ماكرون لم يتأخر ليبدأ التراجع عن موقفه، وهو حاول أن يفلسف وضع النظام السوري، إذ قال عنه «إنه لا يعادي فرنسا، وطالما أنه لا يعادينا فلماذا نعاديه؟!». ولم يتذكر ماكرون، وربما هو لا يريد أن يتذكر، سطراً من تاريخ الرئيس الجنرال شارل ديغول في حربه على الأنظمة الديكتاتورية العربية، وغير العربية، وفي تاريخه مواقف صادمة لإسرائيل باعتداءاتها على الدول العربية، وخصوصاً على لبنان. بل إن ماكرون يمضي سريعاً في اتجاهاته نحو إسرائيل، إلى درجة أنه عقد عاجلاً حلفاً شخصياً مع بنيامين نتانياهو، وقد بدأ يناديه «العزيز بيبي»، وهو استضافه أخيراً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنغيلا مركل في مناسبة العيد الوطني الكبير لفرنسا يوم 14 تموز (يوليو) الماضي. وعلى الصعيد العربي، لم يتأخر الرئيس ماكرون حتى ظهر في قصر «لاسيل-سان كلو «قرب باريس مع قطبي الحرب الليبية فايز السراج رئيس حكومة «الوفاق الوطني» والمشير خليفة حفتر قائد «الجيش الوطني» في حضور الموفد الدولي الجديد للأمم المتحدة اللبناني غسان سلامة. وكما في كل أزمة إقليمية أو دولية مستعصية على الحل، كان لا بدّ من إصدار بيان تضمن «التعهد بوقف إطلاق النار والامتناع عن استعمال القوة إلا في حالات تتعلق بالجهود المشتركة في محاربة الإرهاب» مع لازمة التعهد بالسعي إلى «بناء دولة مدنية ديموقراطية تضمن فصل السلطات» والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان»!

هذا النوع من البيانات الجاهزة للإصدار، في جوارير الدول التي يتطوع رؤساؤها للقيام بأدوار خارج حدودها، كان حاضراً في ملف الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون الذي أثبت أنه يتقن فن التقاط لمعات كاميرات وسائل الإعلام.

لم يكن الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرنسوا هولاند رئيساً استثنائياً من طراز شارل ديغول، لكنه كان رئيساً متوازناً، ذكياً، ودمثاً، وأقرب ما يكون إلى الحقيقة والشجاعة في التعبير عن رأيه وصوغ قراره الوطني، وقد جاء خليفته نقيضاً له. وإذا كان الرئيس الجديد ماكرون قد أحرز فوزاً صاعقاً فلا يعود السبب في ذلك إلى أنه رجل «الحلم العظيم» بل لأنه فتي وشجاع ومبادر، ولأنه، وفق ما شاع عنه في الأوساط الشعبية «حبيب التانتات» لكونه حالياً في السابعة والثلاثين من العمر وزوجته المطلّقة (بريجيت ترونيه) في الواحدة والستين، مع أولادها الثلاثة. وقد يتساءل البعض من أهل الشرق العربي بعفوية: «أين كان أهل ذلك الصبي (إيمانويل) عندما وقع في حب معلمته وهو في الخامسة عشرة؟!، الواقع أن الأهل كانوا موجودين، وكانوا مطلعين ومتابعين لوضع ولدهم في مدينتهم «أميان»، وهم حاولوا إبعاده إلى باريس، وقد ذهب إليها بعد حصوله على شهادة بكالوريا علمية بدرجة جيد جداً، ثم سعى لدخول مدرسة الأساتذة العليا، وفشل مرتين قبل أن يحصل على درجة الماجستير وعلى ديبلوم الدراسات العليا في الفلسفة في جامعة «باريس- نانتير» ليتخرج في ما بعد في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكان قد بلغ الرابعة والعشرين.

هذه السيرة الذاتية المدرسية لرئيس فرنسا الجديد الذي بلغ الأربعين من العمر باهرة، وقد صدرت مجلة «شارلي أيبدو» الفرنسية أخيراً وعلى غلافها صورة الرئيس ماكرون والى جانبه زوجته سيدة «الإيليزيه» وهي حامل في عمر الرابعة والستين. إنها فرنسا التي لا تحاسب رؤساءها على حياتهم الشخصية، لا قبل الرئاسة ولا خلالها، ولا بعدها، كما يفعل هؤلاء الأميركيون «المحافظون»…

وإذا كانت لإمانويل ماكرون حسنة تُسجل له، فهي أنه تغلب في معركة رئاسة فرنسا على منافسته «مارين لوبن» العنصرية الفاشية المعبأة كراهية وحقداً على كل من ليس من سبطها…

الشعار يلاحق صاحبه

وإذا كان الرئيس ماكرون قد جاء من خارج الطاقم الفرنسي السياسي التقليدي، يميناً، ويساراً، ووسطاً، فسوف يظل ملاحقاً بالشعار الذي أطلقه على جمهوريته: «إلى الأمام»، وهو شعار مواز للشعار الذي رفعته الحركة الطالبية التي قادها في النصف الثاني من القرن العشرين الطالب الصهيوني في جامعة «السوربون» دانيال كوهين باندت. كان ذلك الشعار «اركضوا يا أصدقائي… العالم القديم ورائي». وكان ذلك الطالب من إحدى دول أوروبا الشرقية زمن الانتداب السوفياتي، وهو من أم يهودية. وقد قامت حركته ضد حكم الرئيس شارل ديغول في أيار (مايو) 1968، وكانت حركة فوضوية منظمة اعتمدت العنف، فانضم إليها تلقائياً أكبر عدد من المجرمين بأحكام قضائية، ومعهم مئات المتسللين من الغرباء واللصوص، ويتذكر الذين كانوا في «الحي اللاتيني» حيث جامعة «السوربون» بالقرب منه، كيف اقتحم هؤلاء الشذاذ المحلات الباريسية الفاخرة فسرقوا ونهبوا وحطموا كل ما طالته هراواتهم.

وكانت هناك أيضاً زمر من «البلطجية» كانوا يحملون معاول ضخمة، وقد انكبوا على اقتلاع حجارة الشوارع لتحطيم كل ما لا تطاله أيديهم.

كانت تلك الفوضى (المنظمة) قد انطلقت بشعارات ضد الجمهورية الفرنسية وضد الحرب في فيتنام، وشعارات أخرى مموهة.

وكان رئيس الحكومة الفرنسية في ذلك الزمن جورج بومبيدو، السياسي الموثوق به والمحترم من الرئيس ديغول الذي دعاه وكلفه بقمع الفوضى. لكن بومبيدو تروى حتى تمكّن من إقناع الرئيس الجنرال بالصبر تجنباً للمزيد من الخسائر في صفوف رجال الأمن، عدا اتساع دائرة الفوضى.

لكن الفوضى لم تتوقف تماماً إلا بعد أن اتخذ الرئيس ديغول قراره بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة أرادها استفتاء على حكمه، وأعلن مسبقاً شرطه بأن يبقى رئيساً إذا جاءت الانتخابات بنتائج تزيد عن معدل الخمسين في المئة، وإلا فإنه سيقول للفرنسيين وداعاً، ثم يذهب إلى بلدته «كولومبيه لودو زيغليز» ليعيش بقية عمره.

… وهذا ما حصل… فقد جاءت نتائج الانتخابات العامة بمعدل يكفي لاستمرار ديغول في رئاسة فرنسا، ولكنها كانت دون المعدل الذي راهن عليه. ولذلك ظهر على شاشة التلفزيون وقال للفرنسيين: وداعاً… ثم عاد إلى مسقط رأسه.

وهناك في بيته الريفي، مع زوجته وحيدين، كان زائره وجليسه شبه المداوم، وزير الثقافة في حكومته الأخيرة أندريه مالرو، ولا أحد سواه، إلا القلائل من أهل العلم المحترمين.

وفي أيام الربيع والصيف كان كل يوم أحد يغادر بيته ويمشي بقامته المديدة على درب وسط حقل مزهر، فيروح يقطف وروداً وأزهاراً برية يجعلها ضمة بين أصابعه، ثم يكمل سيره نحو ضريح متواضع، فينحني ويضع ضمة الأزهار على باب الضريح، ثم يتمتم في صمته كلمات وهو يحني رأسه.

في ذلك الضريح ترقد ابنته «آن» التي عاشت عمراً قصيراً مُعاقة، ورحلت.

كان زائرو الجنرال في تلك القرية من الصنف النادر.

وفي التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 قطع التلفزيون الفرنسي ومحطات الإذاعة والإرسال ليظهر على الشاشة رئيس وزراء فرنسا جورج بومبيدو، وهو يقاوم الغصة في حنجرته ليقول: «أيها الفرنسيات، والفرنسيون… مات ديغول… فرنسا أرملة…».

كان ديغول قد أكمل الثمانين من العمر، وقد فُتحت وصيته المكتوبة بخط يده، وفيها جملة توصيات – وصايا، منها:

– لا يريد مأتماً رسمياً

– يريد تابوتاً من خشب عادي يصنعه النجار الموجود في البلدة.

– كاهن الرعية في البلدة هو الذي يؤدي صلاة الجناز.

– لا كلمات رثاء

– يُدفن الى جانب ابنته آن

… وقد نُفّذت وصية ديغول بحذافيرها…

وفيما بعد كتب عنه أندريه مالرو ما موجزه:

الحكومة أركان حرب

كان ديغول يعامل وزراء حكومته المركزية كما لو أنهم «هيئة أركان حرب». بل إنه كان يعامل، حتى أعز صديق له، سواء كان الوزير الأول في الحكومة، أو رئيساً لهيئة السكرتيريا، كما لو أنه رئيس هيئة الأركان.

كان ديغول مدركاً للنفوذ الكبير الذي يستطيع أن يمارسه على الناس، في الداخل، وفي الخارج، بصفته رمزاً لفرنسا. ولكن أعظم ما كان يهمه ويعنيه أن يقوم بعمل صائب، وأن يقول للشعب الفرنسي ماذا ينبغي عمله من أجل فرنسا. ولم يكن ثمة أدنى غموض في خطبه أو في مؤتمراته الصحافية.

ويقول عنه مالرو أيضاً:

في جلسات مجلس الوزراء كان يصغي إلى كل ما يقال، من دون مقاطعة. وربما، أحياناً، كان يوجه بعض الأسئلة. وكان عقله بمثابة غربال يغربل كل ما يوضع فيه، مستبقياً منه الجيد، ومتخلصاً من الزوان…

وفي النهاية كان يتخذ قراره بصدد الموضوع المطروح، ويصدر تعليماته بتنفيذ القرار، من دون تردد أو إبطاء.

ويقول أندريه مالرو: إن القائد العسكري يفكر، مثلاً، بعقلية «نحن والعدو»، أما رجل الدولة فإنه يفكر بعقلية «نحن ومصير العالم».

ويقول مالرو أيضاً:

«إن نابليون لم يجعل قادته العسكريين ومارشلاته مسؤولين عن حكم فرنسا، بل هو أنشأ أعظم إدارة مدنية عرفها الفرنسيون في تاريخهم… وقد حاول الجنرال ديغول في العام 1958 أن ينشئ جهازاً يستطيع أن يحترم فرنسا في زمن السلم بالشكل الذي يستطيع به جيش فعال أن يخدمها في زمن الحرب».

وقال مالرو أيضاً عن ديغول:

«مع بعض الناس كان يصغي إلى كل كلمة يقولونها إصغاء تاماً حين يكون النقاش يتعلق بموضوع مهم جداً، أو عندما يجري نقاشاً مع رؤساء دول زائرين، ثم يقول بأسلوب الشخص الذي يحاول إدخال الثقة والطمأنينة في قلوب مستمعيه: حسناً، سأبلغك رأيي..».

وينقل أندريه مالرو عن ديغول مثلاً عربياً كان يردده في حالات معينة، وهو:

«إذا أهانك عدوّك، فاذهب واجلس في باب دارك، فلا بدّ أن ترى يوماً جثته تمرّ أمامك».

فهل من مجال للمقارنة بين جمهورية إيمانويل ماكرون وجمهورية شارل ديغول؟!

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟

«قنبلة الإسكوا» تكشف موقف المنظمة الدولية من فلسطين