الفيحاء في محنتها

الياس الديري (النهار)

لا حديث للبنانيين خلال هذه الساعات الحرجة سوى حديث طرابلس الجريحة، التي يستبسل الجيش اللبناني في افتدائها ومحاولة إنقاذها بدماء فرسانه وشهدائه. وبكل إباء وشجاعة.

حتى قيل على أعلى المستويات، إذا لا سمح الله زحطت طرابلس خلال هذه المواجهة التاريخيّة المصيريّة، فليس من المستبعد أو المستغرب أن يزحط لبنان معها، كنتيجة طبيعيّة لا مفرّ منها.

ومع أنّ الفيحاء تكاد تكون هي الساحة الوحيدة التي لم تعرف الاستراحة والطمأنينة منذ عقود، والتي ما زالت حتى اللحظة تدفع أثماناً باهظة من لحم ودم ودمار، فحتماً ليست وحدها المستهدفة اليوم. فلبنان مستهدفٌ أيضاً. ومن الناقورة إلى النهر الكبير.

وما ضاعف خوف اللبنانيّين وقلقهم من الهجمة “التكفيريّة” الراهنة، رؤيتهم ومعايشتهم فصول ومراحل اندثار العراق بلد الحضارات السبع، ومنبع دجلة والفرات، وأول دولة في تاريخ المنطقة ينضوي تحت جناحيها “كوكتيل” نادر من الطوائف والمذاهب مذ كانت بغداد قلعة الأسود، وحتى بعدما استأثر لبنان بالرقم الأوّل ببلوغ عدد الطوائف والملل التي تحمل هويّته الثماني عشرة. ثم سوريا، فاليمن، ومن يدري مَنْ التالي.

لكن طرابلس المعذَّبة، المضطهَدة، المنهَكة، ليست مدينة عاديّة، أو مجرّد منطقة ضمن الأراضي اللبنانيّة. إنها الفيحاء، العاصمة الثانية التي كانت إبّان الزمن الجميل تجسّد بحقّ وحقيق جوهر الصيغة اللبنانيّة، سواء لجهة العيش المشترك أو استيعاب التعددّية بكل أبعادها، فضلاً عن الحريات والانفتاح على الغرب والشرق معاً.
وبنجاح غير مسبوق. وفي كل المجالات الثقافيّة والتعليميّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، والسياحيّة بكل مندرجاتها وتسمياتها.

هذه الفيحاء، هذه المدينة التي خُطِفَت من أهلها الأصيلين، واقتُلِعَت تقاليدها وعاداتها وأمجادها من شروشها، تواجه اليوم ما واجهته أمس وما قبله بسنة وسنتين وسنوات. فمن حقّها علينا جميعاً، على كل اللبنانيّين، وعلى كل المدن والبلدات والقرى، أن نهبّ لنجدتها، وشدّ أزر الجيش، وتقديم الغالي والرخيص لإنقاذها من محنتها… فتشعر أنها ليست وحدها، بل أن كلَّ اللبنانيّين بمعيّة الجيش جيشها.

صحيح أن الوقت العصيب لا يسمح بفتح الدفاتر العتيقة، إلا أنّ الإهمال الكبير الذي قوبلت به عاصمة الشمال بعد اتفاق الطائف والخروج من مستنقع الحروب القذرة، شجّع بعض الفئات كما دفع بعض المحرومين والمحتاجين الى البحث عن مصدر رزق يعتاشون منه، مثلما استغلّت تنظيمات متطرّفة مختلفة الهويّة والهوى هذه “الفرصة” السانحة، فصار ما صار…

هذا ما تحصد طرابلس نتائجه وثماره منذ فترة طويلة، وما يحاول الجيش اللبناني في هذه اللحظة المصيريّة التصدّي له واقتلاعه من جذوره.