اليونان و”لا” تسيبراس

د.قصي الحسين

 

بعد الاستفتاء اليوناني الضخم بـ”لا” المدوية على وطأة الدين ومستلحقاته الأوروبية والوقوف إلى جانب رئيس الحكومة “ألكسيس تسيبراس” في طرح أفكار جديدة لمواجهة الواقع الصعب، بدل الرضوخ إلى الضغوط الأوروبية والدولية واتباع الوصفة الألمانية، بدا “تسيبراس” وخلفه التأييد اليوناني الضخم بـ”لا” للدخول في مواجهة قاسية مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل من أجل حل الأزمة، بدلاً من الرضوخ والانصياع للأوامر الأوروبية ولو أدى ذلك للدفع باليونان للخروج من منطقة اليورو.

وكاد مشهد البهجة للاستفتاء ونتائجه بـ”لا” المدوية أمام البرلمان الألماني ليل الأحد – الاثنين أن يطاح به وسط المخاوف من نفاد الأموال من مصارف البلاد، لتهافت الناس على سحب ودائعها. وكان القلق عاماً من عدم التوصل إلى اتفاق مع الجهات الدولية الدائنة التي فرضت نفسها عليهم، بحيث لا يستطيع الشخص أن يسحب أكثر من ستين يورو في اليوم. أما وزير الاقتصاد اليوناني جورجيوس ستاتاكيس، فقد لفت إلى أن المصارف اليونانية على شفا الافلاس.

وفي برهة الوعي الوطني اليوناني إزاء الأخطار المهددة للبلاد وأهلها، التقت الأحزاب المعارضة والأحزاب الحاكمة (اليمين واليسار) على دعم جهود الحكومة والوقوف متحدين لعقد اتفاق جديد في شأن المساعدات، من خلال مبادرة رئيس الحكومة “تسيبراس” بحيث يلاقونه في منتصف الطريق لأجل تعزيز التأييد السياسي له وجعل موقفه أكثر قوة وصلابة في مواجهة “منطقة اليورو” حين شعروا أنها تهددهم بالاحتياج والاستلاب.

إن استقالة رئيس الوزراء اليوناني السابق “أنتونيس ساماراس” وهو زعيم أبرز أحزاب المعارضة اليمنية (حزب الديمقراطية الجديدة) بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، لمما أريد به شد أزر “تسيبراس”، رئيس الحكومة الحالي (اليساري) لأجل انقاذ اليونان بإرادتها وسمعتها واقتصادها ورفاهية شعبها في آن. وهذا ما دعا قادة منطقة اليورو لعقد اجتماع قمة لهم في بروكسل، والتصريح بأن حكومة “مركل” في المانيا زعيمة منطقة اليورو، تنظر في أن الناس في اليونان في حاجة إلى مساعدة و”ينبغي علينا ألا نرفض ذلك لمجرد أننا غير مسرورين من نتيجة الاستفتاء” (الحياة 7/7/2015 ص 6)

إن تصويت اليونان بـ “لا” مدوية رفضاً لمزيد من اجراءات التقشف، رتب على أسواق العملات العالمية تأجيل تقديمها لوضع اليونان في منطقة اليورو، كما رتب على اليورو نفسه أن يتراجع قليلاً إلى ما دون 1,10 دولار. أما الفرنك السويسري فقد استقر لأول مرة أمام اليورو. وإذ تراجعت الأسواق الأوروبية قليلاً، غير أنها حافظت على هدوئها في انتظار معرفة مزيد من ألأمور حول مستقبل المفاوضات مع الجهات الدائنة. وقد سجل عليها لأول مرة أنها اختارت دائرة الحذر قبل الاستفتاء كما بعده أيضاً.

توسل اليونانيون بـ “لا” مدوية بالرد على “ملكة أوروبا” وهو اللقب الأثير على قلب “انغيلا مركل”، لأنها تركت أزمة سيئة تتفاقم في اليونان وتبلغ الانفجار، ولأنها عجزت عن اتخاذ قرارات تفتقر إلى الشعبية، على حساب تصاعد الأزمة اليونانية وبدا رئيس الوزراء اليوناني أكثر صلابة في موقفه، وكأنه يتخذ قراراً عسكرياً في وجه مركل لاسقاطها عن عرشها الأوروبي في منطقة اليورو.

استطاع تسيبراس بعد الاستفتاء بـ”لا” أن يعري الوصفة التي استخدمتها “مركل” في السياسة الداخلية الألمانية: الإرجاء والتلطي وراء التكنوقراط وترك الأمور على التباسها، دون أن تكلف نفسها كزعيمة في منطقة اليورو على تعبيد طريق آمنة أمام اليونان للخروج من أزمته. وحتى لو اقترع اليونانيون بـ”نعم” على خطة الدائنين التقشفية، على ما كانت تأمل “مركل” لبقيت البلاد على شفير الافلاس.

مصارف اليونان

إن موقف “تسيبراس” بـ “لا” مدوية، إنما يسجل في النـزاع على معنى السياسة في منطقة اليورو وقد أراد من خلالها أن يقول إن صندوق النقد الدولي إنما هو رمز الظلم والاضطهاد. وأن مجموعة من التكنوقراطيين تديره لصالح الأقوياء الذين يذلون الضعفاء. وأنه لم يعد أمام الضعفاء إلا الانتصار إلى كرامتهم وكرامة شعبهم. وأن بقاء اليونان في منطقة اليورو، لم يعد رغبة، بقدر ما تحول إلى مصلحة شعب يريد الانتصار لحياته بكل قيمها الإنسانية والمادية. وإذا كان لا بد من المواجهة والتصعيد في منطقة اليورو، فلا بأس، ولا جناح على أثينا في ذلك تجاه العالم وأقله تجاه شعبها الذي فرض عليه أن يعاني الأزمات من العودة إلى العملة المحلية الدراخما وإحياء التعامل بها في البلاد.

ولعل “تسيبراس” أراد من خلال “لا” الرفض، أن تستخلص “مركل” قبل فوات الأوان النتائج العملانية من أزمة اليورو. ففي لغة السياسيين يأتي الرفض لالغاء “النسيان” الذي يمارسه الحكام أمام قضايا الشعوب المصيرية. وقد أحسن “تسيبراس” في جعل أقوى سيدة في منطقة اليورو وفي القارة الأوروبية على الاطلاق، أن تعيد حساباتها من أزمة اليونان المالية و”أن تعد للعشرة” قبل الإيغال في التمادي والإبتزاز.

———————————–

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية