الفراغ

د.قصي الحسين

بدأ لبنان التجربة الربيعية مبكراً. سبق بها الأوطان العربية بنصف قرن. كان تحرير فلسطين هاجساً ربيعياً بامتياز. تم استدعاء “الجنجويد” إلى ساحاته وملاعبه في بيروت والجنوب والبقاع والجبل والشمال. بدأت عسكرة الشعب وتسليحهم وتنضيد صفوفهم وحفر الخنادق وبناء الدشم المتقابلة بعيد العودة من “دفن النكسة” (5 حزيران 1967) والأيام الستة المجسمة للهزيمة المستدامة، بقليل.

كانت إدارة المؤسسات تعتاد “الفراغ” شيئاً فشيئاً: مجلساً نيابياً، وقصراً حكومياً، وقصراً جمهورياً أيضاً. وبالمماثل بدت المؤسسات التربوية تعتاد الفراغ أيضاً، وكذلك المؤسسات الصحية والصناعية والشوارع والأحياء، والمدن والقرى. كان الفراغ يصنع لقدومه حرباً، صغيرة أم حرباً كبيرة، لا فرق. وربما كان لا يستطيع احتلال الأمكنة إلاّ بعد إحراقها أو تخريبها أو تهجيرها. وكان الناس يطردون من النوافذ من جهة إلى جهة كالذباب. وكانت الطوابير تخرج بصفارة واحدة وتغادر بصفارة واحدة وتملأ الفراغ بصفارة واحدة، ولو على وقع الانفجارات وأشرطة النيران وأزيز الرصاص الحارق والخطاط.

وظل الفراغ سيد لبنان بلا منازع طيلة نصف قرن حتى الآن. نقول ذلك دون استيحاء من أحد. ودون استيحاش من أحد ودون حسبان لسلطان أحد. كانت “المدرسة الشهابية” تريد لإناء لبنان أن يمتلئ دولةً، بكل ما في الكلمة من معنى. دولة كسائر الدول الآخذة طريقها إلى النجاح والاستدامة. ففاجأها “الجنجويد” قبل أن يشتد عودها. زحفوا عليها وحطموا كل شيء عندها، أتت به للبنان/ الدولة الناجحة والمستدامة، على رأسها. وملأوا كأسها بالفراغ أو حطموه أمام عينيها لا فرق. وجلسوا يتصيدون به جاهاً ومتاعاً ومتعة، دون أن يصبحوا على وطن.

والفراغ بنكهته اللبنانية، هو غيره، بنكهته العربية. فلا يأتي مثلاً إلا لأجل عيون فلسطين وعيون تحرير القدس وعيون عودة الفلسطينيين. الفراغ اللبناني إذاً، لا يأتي إلاّ من رحم التحرير “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. لذلك جلس الفراغ متربعاً على لبنان في ظل دوحة منظمة التحرير “القاهرة، دمشق، الرياض، الطائف والدوحة أخيراً”، لعقد ونيف، حتى خرجت منظمة التحرير إلى تونس وأخلت المقاومة الفلسطينية ساحاته وجبهاته ومواقعه. وخشى من الدولة أن تعود وتملأ المكان وتبسط ما يعطى لها من عصا المجد والأمان. ودبر الأمر على عجل في ليل الأوسط الكبير ورعاته، بمن حضر: من مقاومة وطنية ومقاومة لبنانية ومقاومة إسلامية. وأخذت إدارات الدولة تعتاد الإدارة المدنية والإدارة المحلية. وإدارة النواطير والمخاتير وإدارة القبضايات وحملة أمواس التشطيب والقتل على الهوية.

وفي ظل عصائب الفهود وعصائب التيوس، وفرق التأديب وفرق الترهيب ومنظمات العمل السري للقتل الرحيم، أخذ الفراغ يتعاظم شيئاً فشيئاً “كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذُبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتدٍ أخرى. عليه سيف قد تقلده. وقد تنكب قوساً. وبين يديه حربةٌ فيها لواء ووفضة (جعبة) فيها نبل”. يتحدث بكل فصاحة وبلاغة عن دروس في التحرير أفادها من عين جالوت وحطين ومن جالولاء وحاروراء وقادش ومرج دابق ومرج ابن عامر. إنه التحرير الجديد. تحرير إسلامي بألوية إسلامية والوان إسلامية وخطابات إسلامية. تحرير متعدد الفصائل، متعدد الأغراض والأهداف. تحرير متعدد الألوية. تحرير متعدد الأولويات. تحرير متعدد الأشكال والألوان. فإذا بدأ هذا الفصيل من هنا، بدأ الفصيل الآخر من هناك، حتى آخر مجاهد من كل فصيل من الفصيلين.

بدت كرسي رئاسة الجمهورية في لبنان منتصف ليلة الأحد 25/5/2014 وقد غشّاها “الفراغ” بعد أن دحاها التحرير. خرج فخامته والسيدة الأولى قبل الموعد بقليل دون الالتفات إلى الوراء، حتى لا يشهدا على “سواد المغتصبة” مضرجةً بدمائها. وقميصها قُدَّ من دبر. والجنجويد يحتلون الأثير ويعلنون وحدة المسار والمصير حتى النفس الأخير.

في بيت لحم، وقف البابا فرنسيس يصلي أمام الجدار الفاصل الإسرائيلي، يملأ الفراغ العربي التاريخي ولو لبرهة واحدة أمام عيون أطفال المخيمات الفلسطينية، ويدعو للتفاوض والسلام. وفي بيروت وقف فخامة الرئيس سليمان ومعه السيدة الأولى، يدفع الفراغ اللبناني الزاحف على القصر حتى البرهة الأخيرة أمام عيون أطفال لبنان: جيل ما بين المقاومتين!

البابا فرنسيس في بيت لحم، وفخامة الرئيس في بيروت وفراغ يشطب، وفراغ يكتب. وشعب يختنق في نوافذ البكاء: “إِلامَ الفراغ”. فيأتي الصدى: صوت قديم جديد.