مقهى جبل محسن

د.قصي الحسين

إستهدف الإنتحاريان مقهى عمران بجبل محسن، في الناحية الشمالية من طرابلس. تبنته داعش فورا بعد ساعة، وقالت أن الجاني يمني. وسارعت جبهة النصرة، ولو بعد وقت قصير إلى تبني العملية الإنتحارية. وتداولت الشاشات والإذاعات ووسائل التواصل الإجتماعي النبأ. وذكرت وكالة الأناضول للإعلام أنهما إنتحاريان، من محلة المنكوبين المتاخمة لجبل محسن، وأنهما تدربا على يد جبهة النصرة في جبال القلمون السورية. وانشغل المحللون والسياسيون بالتعليق على العملية الإنتحارية المفجعة، وأجمعوا على إدانتها كل بحسب أسلوبه الخاص، آخذا بعين الإعتبار،الموقف العقدي الذي يمثل الفريق الذي ينطق باسمه.

وقبل أيام من هذة العملية الإنتحارية المفجعة؛ أعلنت داعش أن القلمون السورية؛ ولاية تابعة لها. وحددت طولها بمحاذاة الحدود مع لبنان، بستين كيلو متر. ولم ترد جبهة النصرةعلى داعش، ولا هي سألتها ولو في حدود الإعلام، عن حصتها أو حتى عن دورها في إدارة شؤون الولآية المقتطعة. ولم تصدر أية ردات فعل على هذا النبأ، لا من النظام السوري ولا من الجانب اللبناني، ولامن الجوار الإقليمي، ولا من دوائر الأمم المتحدة، ولامن الدول الكبرى المعنية بالصراع الدائر في سوريا، أو من الإتحاد الأوروبي ودوله المستقيلة من دورها،لحساب النفوذين: الأميركي والروسي.

وكانت بدأت جلسات الحوار، بين تيار المستقبل وحزب الله، بعد جهود جبارة بذلها الداعون إليه في الداخل والخارج. وهو وضع تحت عنوان تخفيف الإحتقان السياسي في لبنان. وبدت القوى السياسية جميعها، داعمة ومؤيدة له. وذهب بعض المشجعين للحوار، يتفاءلون ببلورة حلول لأزمات سياسية وعسكرية مزمنة. فتقدمت ورقة إنتخاب الرئيس ووضعت على طاولة الحوار، ولو لم يعلن عن ذلك. ووضعت أيضا بإزائها ورقة إنسحاب حزب الله من القتال في سورية. وتنادى اللبنانيون من قوى الرابع عشر من آذار وكذلك من قوى الثامن من آذار، لورقة الأمن للجميع. وعلى جميع الأراضي اللبنانية. ولعدم الإحتكام إلى السلاح في الداخل. وأن يتبع ذلك الإنفراجات فالمصالحات. وأن يتم الأمر تحت أنظار الدولة وقواها المسلحة. وأن ىيتم تفعيل عمل المؤسسات والمجالس النيابية والحكومية.

bomb

وبالتزامن مع ذلك؛ تم الإعلان عن خطة جديدة للتعامل مع السوريين المقيمين والوافدين الجدد. وأخذت الإجراءات التنفيذية سبيلها على الأرض. وشهدت مراكز الأمن العام إقبالا من السوريين لم تتهيأ له دوائرها الضيقة.وظهر ذلك في الصفوف الطويلة خارج الدوائر. وفي الإزدحام على أبوابها،منذ مابعد منتصف الليل لتسجيل الدور. أما على المعابر الحدودية؛ فوضعت دفاتر خاصة بالسوريين. وفي الخانات شروط جديدة عليهم التوافق معها لأجل الإذن بالدخول إلى لبنان. وإشتكى السفير السوري؛ من على وسائل الإعلام، من الإجراءات الجديدة واعتبرها أكثر من قاسية. وأنه يشتم منها تبييت الإذلال والقهر والإنتقام من مواطنيه. وربما أراد أن يسمع أيضا حلفاء النظام السوري، هامسا: “ماذا فعلتم بالوردة. ماذا فعلتم بي”. أما الرئيس بشار الأسد؛ فبادر إلى رفع السقف في وجه الداخليين والخارجيين؛ فقال في إستحالة إنتخاب رئيس للجمهورية بدون الرجوع “إلينا”.

ولم تكن، لا داعش ولا جبهة النصرة، بأقل استياء، من الرئيس السوري والسفير السوري؛ مما يجري للسوريين في لبنان وعلى المعابر الحدوديةاللبنانية. بل هم أعظم استياء منهما، وأعظم مصيبة أيضا. ففي معركتهم مع النظام،خصوصا في السنتين الإولتين من عمر الثورة، إتخذوا من عرسال وجوارها الجغرافي الملائم والملازم أرضا مفتوحة لهم؛ أنشأوا فيها الخلايا النائمة، وتحصنوا في بيوت الأهالي؛ وقادوا منها معاركهم مع النظام والميليشيات المقاتلة إلى جانبه، وخصوصا ميليشيات حزب الله اللبناني. وفخخوا فيها السيارات، وفجروها في الضاحية الجنوبية وفي غيرها من المناطق. وانطلقوا منهاإلى سائر أنحاء السلسلة الشرقية، وحولوها أرضا مستباحة.وتحركوا منها للقتال في القصير وفي حمص وفي يبرود وفي الزبداني؛ وصولا حتى المصنع. كانت عرسال السبيل إلى الضنية وعكار وطرابلس والبداوي؛ وبخاصة باب التبانة والمنكوبين والمنية والثغر البحري الذي تنتهي إليه.

وبعدما تقرر تجفيف جميع البؤر المحازبة لداعش وجبهة النصرة في لبنان؛ رفع الغطاء السياسي عن جبل محسن وباب التبانة؛ وانسحب المسلحون؛ واختفى القادة من طرفي الصراع، وتولت القوى العسكرية اللبنانية ملاحقة الفارين لسوقهم، ومداهمة الخلايا النائمة وإلقاء القبض على عناصرها، وتوقيفها، وزجها في السجون حتى امتلأت بهم. وخرجت داعش والنصرة من عرسال. وخطفت في طريقها إلى جرود عرسال والقلمون أكثر من أربعين جنديا ودركيا، ومارسوا لعبة التهديد بالذبح، لجعل عرسال وجوارها، حديقة خلفية لجبهة القلمون،فإنصاعت القوى اللبنانية، للأمر الواقع.وبدت الأجواء تشي بهذة بثبات هذة المعادلة.

وتشكل الساحة اللبنانية منفرجا لابأس به للأطراف المنغمسة في الأزمة السورية. وقرار إغلاقها إنما هو مكسب للبنانيين؛ بدليل الإجماع الوطني عليه من كافة أطياف المجتمع اللبناني، بطريقة أو بأخرى؛ كما هو بالتالي مأزق لجميع السوريين؛ بدليل الإجماع السوري عليه ،نظاما ومعارضة. وإذا كانت مرحلة الضرب تحت الحزام قد بدأت على الحدود العراقية السعودية بالتفجير الإنتحاري، وبلغت بعدها فرنسا في ضربتين موجعتين متتاليتين، فإن العملية الإنتحارية التي قام بها الأنتحاريان في جبل محسن بناحية طرابلس الشمالية‘ قبالة باب التبانة والمنكوبين والبداوي؛ إنما تأتي في إطار التسخين،على مبعدة من موسكو-1 وتنازع الأطراف المشاركة فيه، إن على الحضور أو على مندرجات جدول الأعمال.وهي مرحلة تجريبية جديدة لحل الأزمة السورية، بعد فشل جنيف-1، وجنيف ـ2.

وتنظر جميع القوى اللبنانية، بكافة أطيافها إلى تحصين المكتسبات الوطنية السابقة، السياسية منها والأمنية على حد سواء. وترى ضرورة البناء عليها، وعدم ربطها بعربة حل الإزمة السورية، خصوصا بعد تدويلها من جهة وبعد الأقتناع بعجز الأطراف المنغمسة فيهاعن التأثير الإستراتيجي فيها. وابتعد تيار المستقبل عن المعارضة السورية. وجعل بينه وبينها مسافة في لبنان ولمصلحة لبنان. وإبتعد حزب الله عن النظام السوري. وجعل بينه وبين الأخذ بمطالبه من لبنان مسافة. وإذا ما ترسخ هذا النهج الوطني في جلسات الحوار بينهما، وتوسع ليشمل سائر مكونات وأطياف المجتمع؛ ووجد تأييدا خارجيا بعيدا عن وطأة القوى السورية المتقاتلة؛ فإن لبنان يكون قد وجد سبيله إلى الحل السياسي لأزمته التي لازمته منذ إستشهاد الرئيس الحريري والخروج السوري الذي أعقبه. وإذ ذاك؛ فإن جميع الضربات تحت الحزام التي تصيبه بها القوى المتضررة من الحل اللبناني؛ لأجل تسخين الساحة وعدم الإذن له بالحل السياسي، سوف تكون كمن يضرب في حديد بارد. ومع عملية الإنتحاريين في مقهى جبل محسن، وردود الفعل العقلانية عليها من كل الأطراف؛ يكون لبنان قد أبطل مفعول الأحزمة الناسف التي تستهدف مسيرته السيادية، بإستهدافها لأي فريق من اللبنانيين، وآخرها إستهداف الفقراء الأبرياء في المقهى الشعبي في جبل محسن.