تعاطي التفاهمات

د.قصي الحسين

يودع في كل تفاهم ممغنط، عادة، تفاهم آخر يخفى على الناظر المتسرع، الذي لا يدرك أن كل عناصره من الورقة التي ترتبت إلى طرز الأفكار والمبادئ التي أدرجت، هي حافلة بدلالات. وتمتحن أيضاً حدود الرقابة. وهاكم بعض نماذج هذه الأوراق/ التفاهمات الممغنطة:

1- في تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر، كانت الورقة بلونيْها الأصفر والبرتقالي، تفصح عن مبادئ، وتشي أيضاً، وفي الوقت عينه، بمبادئ أخرى. والورقة التي صورت بين المتعاقدين السياسيين، احتاجت قرابة ست سنوات حتى أحمضت صورته وبانت من خلالها “كرسيّ الرئاسة”. وأتاح “التفاهم” لبروز تفاهم آخر، ربما هو أيضاً يحوي خلايا “تفاهمات نائمة” لدى كل طرف من الطرفين المتعاقدين: حزب الله والتيار الوطني الحر.

2- في تفاهم الرئيسين أوباما وبوتين على الملفين العظيمين: “النووي الإيراني” و”الكيماوي السوري” والذي يفصح عن وقف التخصيب والهدرجة واقفال الأحواض والمصانع و”القفل” على القنبلة الذرية الإيرانية نهائياً، تماماً كما يفصح عن ترحيل “الكيماوي السوري” قبل نهاية نيسان 2014، بصورة تامة، دون السماح باحتفاظ سورية بأية كمية منه مهما كانت ضئيلة. وهذا التفاهم لم يحتج إلا لأشهر حتى أحمضت صورته، وبانت من خلالها “قضم أوباما لإيران سراً”، و”قضم بوتين للقرم جهاراً ونهاراً”. وربما ظهرت في صورة هذا التفاهم بعض الأنسجة التي تحتاج إلى “إيكو” من جديد لتحديد “خلايا التفاهمات النائمة” على الإطاحة بجميع الاتفاقات والقوانين الدولية التي أبرمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء والمحور أي الرابحين والخاسرين، لأن ما بعد حروب: أفغانستان والعراق وسورية وليبيا وتونس ومصر وأخيراً فلسطين، إنما تحتاج نتائجها إلى اتفاقات وقوانين دولية جديدة.

3- في تفاهم الرئيسين أوباما وروحاني على تدوير الزوايا وتقديم التنازلات لإيجاد فرص واعدة تبعث على الانفتاح والتقارب، ما يعود على إيران بكسر حصار دولي طال وتخفيف عقوبات اقتصادية مفروضة، وتحسين الظروف المعيشية ومواجهة أزمات غلاء المعيشة والبطالة والتضخم وتنامي الغضب من السياسات القمعية في مجال الحريات وحقوق الإنسان. وملاقاة حنين الشعب الإيراني لثقافة الغرب في منتصف الطريق، وانتـزاع اعتراف أميركي بدور طهران في سورية وبما حققته من نفوذ اقليمي مشرقي. وهذا كله يترك آثاره الايجابية على التحول الأميركي نحو إيران، وملاقاة رغبتها في تخفيف التوتر والعداء بينهما. وعلى المواقف الانسحابية والتخلص من تركة التدخل السياسي والعسكري الثقيلة. مما يسهل التعافي الاقتصادي وصون المصالح الأميركية على خطوط النار بين جميع المحاور والدول في الشرقين: العربي والإسلامي. وهذا التفاهم الممغنط بين الرئيسين الإصلاحيين: “أوباما” و”روحاني”، ربما يحتاج إلى “زرع خروج” من المنطقة بدل “فحص الخروج” حتى تستبين أنسجته السرطانية الحميدة والخبيثة على حدّ سواء في المنطقة العربية والإسلامية وفي العالم أيضاً.

4- في التفاهم التركي والإيراني حول دور كل منهما في أزمة الصراع العربي الإسرائيلي من جهة وفي دور كل منهما في الصراع الملف الفلسطيني ولواء الحرب والسلم مع العدو الإسرائيلي وفي الاحتفاظ ببذور الفتنة والصراع على الإسلام بين السنة والشيعة. وهذا التفاهم وهو الأول من نوعه في تاريخ التفاهمات بين الرؤساء والدول، لا يحتاج إلى “تحميض” لأنه تفاهم لم يعترف “بالحداثة” بعد، وإن هو يعترف “بتقانة الحداثة”. ولهذا يبدو للناظر بوضوح، بلحمه وعظمه وأوردته وخلاياه، في صورة مومياء مصرية دقيقة التحنيط، وإن مرت عليها قرون وقرون. وهذا التفاهم “الإيراني التركي” يجب أن يظل داخل غرفة زجاجية محكمة لأن الطرفين المتعاقدين يخشيان على العالم العربي والإسلامي والمسيحي واليهودي، وحتى الزرادشتي والبوذي من انبعاث الرائحة الكريهة لعفونته التاريخية الممضة والقاتلة والقديمة.

5- في التفاهم “الإيراني السعودي” على استباحة سورية والتخلص من “الإرث الفيصلي” الثقيل أو من الإرث القومي العربي الثقيل أيضاً. ومن وطأته التاريخية على الثورة العربية ورياح الثورات العربية الآتية من كتب العقائد والايديولوجيات القومية والماركسية واليسارية، لاستبدالها بعقائد “الأضرحة” المقدسة و”الألوية” المقدسة و”العتبات” المقدسة. وتحت طرس هذا التفاهم: حرق البلاد وإبادة العباد، وجرف التاريخ وتسييل الجثامين في نهر بردى، أو العاصي، أو الفرات لا فرق.

6- التفاهم الروسي المصري وخلفهما أميركا وإسرائيل وتركيا وإيران لتوكيل “السيسي وصباحي” لرفع جثمان عبد الناصر من “سدّ النيل العظيم” فإذا ما رأوا إحدى يديه تنفلت من ردائها وتقع مع الميثاق في المياه، لا ينحنيان فوق الميت، لئلا تنعتق صورة التفاهم من قيد الكآبة العربية، فتحمل الجموع إلى ما يشبه الخشوع. وفي تجاويف هذا التفاهم تحويل “أرض الكنانة إلى أرض الدم”، وإن في نسخة شبه مطابقة عن كتاب المؤرخ الأميركي سنايدر: “أرض الدم: أوروبا بين هتلر وستالين”.

7- التفاهم بين تيار المستقبل وحزب الله، وخلفهما “سنة” السعودية و”شيعة” إيران في لبنان على زعامة شارعين يتقاطعان على جسد اللبنانيين وجسد لبنان. وتحت الشرشف الأزرق والأصفر: “المال والسلاح” في يد و”السلطة” في يد. وفي الكواليس الخارجية: العمل المستمر على التجفيف والتخفيف وانعدام الوزن.

8- التفاهم بين 8 و14 آذار على الفراغ الرئاسي. وتحته الانتهاء من “معارك القرن” ومن “قضم القرم”. ومن رئاسة ما بعد “أوباما” وما بعد “بوتين” وما بعد “روحاني” وما بعد “أردوغان” وما بعد الملك “عبد الله”. والاطمئنان للنوم مع “أهل الكهف” ولو برئيس هشّ “يبسط يديه في الوصيد”.


(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية