الديمقراطية اللبنانية وقانون الإنتخاب

أحمد حسّان

يثير مفهوم التوافق في الحكم نقاشاً واسعاً في لبنان، ويحتدم هذا النقاش عند كل إستحقاق إنتخابي أو إداري، وعند كل تعيينات أو تشكيلات ومناقلات في الإدارات والمؤسسات العامة والأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية، ويعود ذلك إلى غياب المعايير الوطنية والقانونية المحددة والواضحة، وإلى تغليب المصالح الشخصية والفئوية والطائفية على معيار الكفاءة والجدارة والحق، وإلى عدم الإلتزام بالأنظمة والقوانين، والإحتكام إلى الأعراف التي تحتمل التفسير والتأويل في كل مرّة يتم اللجوء إليها.

فما هي طبيعة النظام اللبناني؟ وهل يطبق لبنان في نظامه الديمقراطية التوافقية؟ أم أنه يعتمد التسويات الفوقية في تسيير شؤونه؟ تفرض هذه الأسئلة نفسها اليوم بقوة في ظل أزمة ثقة كبيرة بين مختلف مكونات الشعب اللبناني، ويأتي إستحقاق الإنتخابات النيابية ليزيد من توتر المشهد العام ويفاقم الشرخ الوطني.

طبيعة النظام اللبناني:

يتفرد لبنان بغرابة نظامه السياسي، فهو يحتكم إلى دستور وطني مكتوب وضع في العام 1926 وخضع خلال تاريخه للعديد من التعديلات الدستورية، وكان آخر هذه التعديلات وأهمها تلك التي أقرت بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/أيلول/1990 بعد إتفاق الطائف وإعلان نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. ويتميز الدستور اللبناني بإقراره ودون تحفظ بالحريات والحقوق الأساسية للمواطنين ووفق أرقى النظم والمعايير الدولية، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولكن، وبموازاة هذا الدستور يحتكم اللبنانيون أيضاً لدستور عرفي آخر غير مكتوب له قوة قانونية وشرعية تضاهي قوة النص الدستوري، بل تتفوق عليه في أحيان كثيرة، مما يحوّل النظام اللبناني من جمهورية ديمقراطية برلمانية، إلى نظام هجين هو أقرب إلى نظام الكونفيدرالية الطوائفية منه إلى النظام البرلماني الديمقراطي. فأي نوع من الديمقراطية يطبق لبنان وهل يصح أن ندعي بأنه يطبق الديمقراطية التوافقية في نظامه؟

الديمقراطية التوافقية:

إنبثقت نظرية الديمقراطية التوافقية، شأنها شأن كافة المفاهيم والنظريات والقواعد الحقوقية، من خلال تجارب الشعوب ومعاناتها، وخاصة تلك التي تعيش مجتمعة في دول تتسم بتعدد المكونات الوطنية لها. والهدف من إعتماد وتطبيق هذا المفهوم كان خلق بيئة سياسية وإجتماعية وإقتصادية مستقرة تحافظ على وحدة الدولة والمجتمع.

ومن خصائص الديمقراطية التوافقية (بحسب آرنت ليبهارت، في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد) أربعة عناصر أساسية وهي:

1-   الحكم من خلال إئتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة القطاعات (والطوائف) الهامة في المجتمع التعددي.

2-   الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية المتراضية، لحماية إضافية للمصالح الحيوية للجماعات.

3-   إعتماد النسبية كمعيار أساسي للتمثيل السياسي والتعيينات في مجالات الخدمة المدنية  وتخصيص الأموال العامة في الإنماء المتوازن.

4-   درجة عالية من الإستقلال لكل قطاع (أو جماعة) في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة.

تطبق عدة دول نظرية الديمقراطية التوافقية في أنظمتها، ولعل أبرزها، سويسرا وبلجيكا وهولندا والنمسا… وهي راعت في تطبيقها إحترام تلك العناصر الأربعة مما وفر لهذه الدول فرصة خلق أرضية مشتركة بين مكوناتها، إستطاعت من خلالها تحقيق الإستقرار السياسي والإجتماعي والإقتصادي ومنعت إنقسام الدولة وتشظيها، وحافظت على النظام البرلماني كمعبر إلزامي للديمقراطية التوافقية.

النظام اللبناني والديمقراطية التوافقية:

وبالعودة إلى السؤال الأساسي، هل يصح الإدعاء بأن لبنان يطبق فعلياً مفهوم الديمقراطية التوافقية في نظامه؟

وللإجابة على هذا السؤال بشكل منهجي سنعمل على إعتماد العناصر الأربعة الأساسية لمفهوم الديمقراطية التوافقية عند ليبهارت، كمعيار وأداة قياس للحكم على صحة تطبيق لبنان لهذا المفهوم بروحيته وأهدافه.

– عنصر الحكم من خلال إئتلاف واسع من الزعماء السياسيين.

تنص المادة “ي” من مقدمة الدستور اللبناني على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. والمقصود بميثاق العيش المشترك هنا هو ميثاق العام 1943غير المكتوب والذي جرى التوافق عليه بين الطوائف الأساسية. وبموجبه يتم (إنتخاب) رئيس للجمهورية من الطائفة المارونية، ورئيس لمجلس النواب من الطائفة الشيعية، ورئيس لمجلس الوزراء من الطائفة السنية…وعلى مشاركة الطوائف في الحكم عبر توزيع المقاعد النيابية والوزارية والوظائف العامة والمناصب الأخرى فيما بينها ووفقاً للعدالة.

هذه المادة من مقدمة الدستور توحي في الشكل وكأن لبنان يطبق الديمقراطية التوافقية إستناداً إلى معيار ” الحكم من خلال إئتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة القطاعات (والطوائف) الهامة في المجتمع التعددي”.

 ولكن هي في المضمون والممارسة قضت على روح الديمقراطية والحياة الحزبية والنقابية داخل الدولة، وسمحت لأمراء الطوائف وأصحاب النفوذ فيها بتوزيع الرئاسات والمناصب والصلاحيات فيما بينهم، بل هؤلاء تحاصصوا أيضاً مختلف الوظائف في الإدارات والمؤسسات العامة والجيش والأسلاك العسكرية والأمنية والقضائية، وتحكموا في التعيينات والترفيعات فيها وعلى مستوى كافة الفئات الوظيفية، وهم لم يترددوا في إصدار مراسيم وقرارات ومذكرات وتعاميم تخالف الدستور والقانون وذلك بتعليق الترفيعات أو نتائج بعض المباريات بحجة الحفاظ على التوازن الطائفي بين الناجحين، علماً أن المادة 12 من الدستور تنص على أن “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الجدارة والإستحقاق” وأن القانون ينص على طائفة الموظفين من الفئة الأولى حصراً ولا يتعداه إلى باقي الفئات والمراكز.

هذه الممارسة وإن كفلت الحكم من خلال إئتلاف واسع بين الزعماء السياسيين إلا أنها أعطت هذا الإمتياز لأمراء الطوائف وأصحاب النفوذ السياسي والإقتصادي والمالي  وليس لأصحاب الكفاءة والجدارة والإستحقاق، وهو ما أدى إلى إضعاف منطق الدولة وقدرتها على الصمود أمام إجتياح الطوائف وأصحاب النفوذ فيها.

عنصر الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية المتراضية.

أما معيار ” الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية المتراضية، لحماية إضافية للمصالح الحيوية للجماعات” فهو فيتو لم يعط في لبنان للمواطنين وممثليهم، بل أعطي لأصحاب النفوذ الطائفي والمالي والإقتصادي والإجتماعي، وبدل أن يحمي المصالح الحيوية للجماعات ويعمق التعاون فيما بينها، عمل على حماية المصالح الشخصية والفئوية للمتنفذين في هذه الجماعات وساهم بخنق الأصوات العابرة للطوائف والمذاهب ومنعها من حق التعبير عن رأيها، مما سمح بتعميم ثقافة الفساد والمحسوبية والإرتهان للطوائف وأصحاب النفوذ فيها، وحد من الشعور والإنتماء الوطني.

عنصر إعتماد النسبية كمعيار أساسي للتمثيل السياسي والتعيينات.

إن ” إعتماد النسبية كمعيار أساسي للتمثيل السياسي والتعيينات في مجالات الخدمة المدنية  وتخصيص الأموال العامة في الإنماء المتوازن” كان من شأنه لو تم التوافق على تطبيقه بشكله الصحيح أن يفسح في المجال أمام شريحة كبيرة من الكفاءات العلمية والثقافية والإجتماعية والنقابية والحزبية على المشاركة في صنع القرارات الوطنية والمشاركة في تنفيذها. ولكن ولأسباب مصلحية ضيقة تم محاربة إعتماد معيارالنسبية، وكل المعايير التمثيلية الديمقراطية الأخرى، والتي في حال أعتمدت لكانت أثرت على هيمنة أصحاب النفوذ على القرار الوطني، وعلى التحكم بمالية الدولة وحرمان المجتمع من سياسة إنمائية عادلة متوازنة وشفافة.

عنصر الإستقلال لكل قطاع (أو جماعة) في إدارة شؤونه الداخلية.

أما في شأن إعطاء ” درجة عالية من الإستقلال لكل قطاع (أو جماعة) في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة” فقد طبق هذا العنصر بحرفيته إنما ليس بروحيته وأهدافه الحقيقية، بل طبق بشكل فوضوي وسلبي أدى إلى قيام كيانات سياسية طائفية ومؤسسات إقتصادية وإجتماعية وصحية وثقافية وتعليمية تابعة لها، وذلك على حساب الدولة ومؤسساتها، وهو ما أتاح للمجموعات الطائفية أن تعمق هيمنتها على شؤون أبناء طوائفها وأن تربط مصالحهم بمصالحها الفئوية وليس بالمصلحة الوطنية العليا، وهو ما أثر على الإلتزام الوطني ومفهوم الإنتماء والمواطنة لدى شريحة واسعة من اللبنانيين.

إستناداً إلى كل ما تقدم من إستنتاجات، يمكن القول أن النظام في لبنان يطبق الديمقراطية التوافقية بالشكل، إنما في المضمون والممارسة فهو يطبق نظام طائفي تسووي بين أصحاب النفوذ فيه، وهو ما يعمق أزمة النظام اللبناني من جيل إلى جيل، ويعمق الهوة بين مكوناته، ويلغي المساحات المشتركة بين أبنائه.

إن غياب الممارسة الديمقراطية الحقيقية، ولو بأدنى مفاهيمها، هو السبب الرئيسي في فشل النظام وتقهقر الحقوق والحريات فيه. والجريمة التي أرتكبها السياسيون من أصحاب النفوذ والحظوة لدى دولة الإنتداب بحق لبنان وشعبه ونظامه، انهم تعاملوا مع هذا الإستقلال كتسوية بينهم، وبينهم وبين فرنسا كدولة منتدبة عليه. ولم يكن هدف هؤلاء السياسيين بناء وطن نهائي لأبنائه، بل هم ساهموا في قمع النضالات الوطنية النقابية والحزبية من أجل إستحداث وطن تستثمر خيراته وتسخر ماليته العامة لشراء الأنصار والاتباع وتعميم ثقافة الفساد والتسويات المشبوهة والسمسرة والبيع والشراء.

 إن وطناً كان إستقلاله تسوية وفشل أبناءه في إصلاحه بعد سبعين عاماً من عمره، هو وطن عاجز عن إصلاح نظامه بمجرد قانون للإنتخابات النيابية.