الصلاة على الطريقة الايطالية

سمير عطاالله (النهار)

32 طائفة وصحن واحد فقط. (تاليران)

في اللحظة التي تحول فيها الحديث عن “قانون” انتخابات الى عمليات حسابية، توقفت عن الفهم أو الاستيعاب. ليس لأنني اكثر تعلقاً بالمبادئ من سواي، ولكن لأن بين الحساب وبيني عداء فطرياً! واضح من حدة النقاش واتساعه وقِدمه أن لا مجانيات في السياسة. كل مقعد صوت، وكل صوت زنته ذهب. وكل التفسيرات والشروحات وهوامشها، لها السبب نفسه، والخلاصة نفسها. فنحن من بلد فاز فيه رئيس الجمهورية بصوت واحد، أنهى أقوى العهود، وانقلبت الاشياء، ورسمه بيار صادق في ذلك الكاريكاتور الراقص: هوا الشمالي غيَّر اللونا.
وكان الكاريكاتور آنذاك، للضحك وتفريج الصدور. وبه تساوت الصفحة الاخيرة والصفحة الأولى، وتساوت الريشتان في التعبير. والبحث عن قانون نذهب به إلى اختيار نوابنا يذكّرني بكلام ناقد فرنسي عن جدليات الحياة في فرنسا حول كل شيء. فقد قال إن الناس تنقسم حتى حول أرباغون، بخيل موليير، أو الأب غرانديه، بخيل بلزاك. وعندما وصل أرباغون الى مرحلة “يقرض” فيها تحياته ولا “يقدمها”، لم يُعتبر مسخرة من مساخر العفن البشري، بل مجرد “بطل” آخر من ابطال التوفير. وأما غرانديه، فكان يفضل أن يكسر ضلعاً على أن يصلح درجة مكسورة في السلم الخشبي، وأن تتناول خادمته “نانون” الطعام مع الضيوف، على أن تشعل شمعة أضافية في المطبخ.
الأفضل أن يهدّنا الجدل، لا الملل. تجاوزنا جدليات فرنسا بقرون. لا أذكر مرور فترة تزيد على ثلاثة أشهر لم تطرح خلالها على الساحة قضية بديهية يمكن أن تتحول إلى نزاع وطني. الفارق أن جميع القضايا المثارة الآن لها علاقة بالحياة وحافة الحياة: من الموازنة، إلى حاكمية المصرف المركزي، إلى الضرائب الاضافية، إلى الرتب والرواتب، إلى مجموعة القضايا المزمنة، كالماء والكهرباء، إلى مصير الشركات العاملة في لبنان، إلى الافلاسات والاقفالات التجارية، وإلى الفساد المعلن.
مثل هذه القضايا يمكن في العادة الحد من ضراوتها إذا توافر استقرار سياسي، لأنه يفتح أبواباً تلقائية كالاستثمار، والسياحة، والانفاق الاغترابي. لكن هذا الاستقرار معلق هو أيضاً. وما بدا مصالحة بين القوى السياسية في انتخاب الرئيس ميشال عون، تؤدي إلى صلح وطني، ما لبث أن تبدد في اشتداد النزاع الاقليمي.
تتراءى الاشياء على حافة الحل، ثم فجأة، نكتشف اننا مرة أخرى على حافة المجهول. والمجهول هذه المرة مؤلم، لأنه يطاول حياة القطاع الأكبر من الناس. وبعدما كانت الطبقة الوسطى هي الضحية الكبرى للمأزق السياسي والوطني، اصبح هناك خطر أن تتسع دائرة المعاناة عند الطبقات الرقيقة الحال.
هذه المجموعات الكبرى من الناس، لا يعنيها، ولا يعينها، قانون انتخاب، عادل أو غير عادل، ما دام الظلم قائماً في الرغيف نفسه والحقوق السياسية للمسيحيين لا تعني شيئاً إذا كانت الحقوق المعيشية لجميع المواطنين مصابة. فالقانون ليس كل مقترع صوت one person one vote، بل، كل مواطن… مواطن. كل مواطن انتماء، إلى هذه الدولة المتلاشية التي لم تكن علتها مرة في نقص البنود.
مشكلتنا أن الدولة عندنا، ولدت بعد الوطن، لا قبله. نشبه في هذا الوضع الوجداني، ايطاليا. فقد كان هناك ايطاليون قبل أن تكون هناك دولة ايطالية، في حين كانت هناك دولة فرنسية قبل أن يكون هناك “فرنسيون”. وأحرى بالذين يبحثون فينا دائماً عن “الاثر” الفرنسي، أن يبحثوا عن الأثر الايطالي!
وضع الرحالة البريطاني كولين ثوبرون كتاباً جميلاً عن جولة في لبنان بعنوان “تلال أدونيس”، شملت القرى والجبال والسواحل والتاريخ والحاليات . ومن أمتع فصول الكتاب حلوله ضيفاً على “دير المخلص” حيث أمضى بضعة أيام في رفقة رهبانه. أحد هؤلاء كان قد أمضى سبع سنوات في ايطاليا. وهو يشرح له نفسية اللبناني: “انه مثل الايطالي تماماً. يضرع إلى الله على شكل تعاقد: اعطني موسماً جيداً، فاتبرع بجزء منه للكنيسة”. الراهب كان يتحدث عن الفلاحين ومواسمهم. أهل المدن كانوا يعدون القديسة ريتا بثلاثين في المئة من الناتج، إذا ساعدتهم في ربح ورقة اليانصيب.
يقطع كولين ثوبرون نحو 500 ميل في لبنان ليكتشف ان ثمة رابطاً واحداً بين أهله: روعة الطبيعة. في المقابل، يكتشف أيضاً السر السيئ: الدولة صعبة، لأن لا استقرار ولا استمرار. من دونهما لا تقوم الدول. تغيرت الانظمة السياسية على فرنسا لكن مشاريع البناء لم تُنقض: بونابرت أنهى المشاريع التي وضعها لويس السادس عشر، ولويس الثامن عشر نفى عائلة نابوليون العام 1815 لكنه أكمل العمل في قوس النصر والاتوال وكنيسة المادلين.. وهذه كلها بقيت للفرنسيين جميعاً، وليس للورثة.
ليس في الامكان أن تحقق أي شيء بحكومات تصريف اعمال. تشكيل الحكومة يستغرق سنة، وفرطها يستغرق انسحاباً. ثم نضيع في البحث عن تصدير صندوق تفاح اضافي، بينما حركة الاقتصاد متوقفة برمتها. العشرة آلاف كيلومتر مربع لا يمكن أن تشكل مورداً زراعياً أو صناعياً لخمسة ملايين إنسان. ثمة ستة ملايين نسمة يعيشون في سنغافورة فوق 600 كيلومتر مربع، ويتمتعون بأعلى مستوى معيشة في العالم. مصدر الثروة شيئان: القانون والاستقرار. في ظلهما تحول البلد من مستنقع، وحانة افيون يقصدها أهل المنطقة، إلى أعجب ازدهار اقتصادي.
عندما اكتظ “ميدان التحرير” في القاهرة بآلاف المتظاهرين، قال أحدهم، رضا العبيدي: “لن تعرف القبطي من المسلم بينهم. جميعهم يطالبون بشيء واحد”. هذا الشيء الواحد كان، ولا يزال، واحداً في كل مكان، كرامة العيش. لا كرامة ولا نخوة في الفقر. غطى المصريون المطلب المعيشي بمطلب سياسي، لأن العربي يربط الجوع بالإهانة. لكن في حقيقة الأمر كان “الربيع العربي” الخائب، حركة اعتراض اجتماعية، لا سياسية. وعندما احرق التونسي محمد البو عزيزي نفسه، كان يطلب رخصة بيع لعربته، وليس الحرية من زين العابدين بن علي. ولو كان السوريون يتمتعون بالازدهار لما نزلوا إلى الشوارع بمجرد وقوع حادث في درعا. وقد حدث للقذافي ما حدث ليس فقط لأنه حجب الحريات عن الليبيين، بل لأنه حجب كرامة العيش في بلد ثري، كان يخفض ديناره باستمرار، مثل الليرة الايطالية أيام مرضها. وعند الحاجة، كان يقول للشعب وكأنه يخاطب قطيعاً من الجهلة، إن راتبه 400 دينار في الشهر.
الحل؟ إنه واحد في كل مكان: المؤسسات. الدول القائمة في العالم هي دول المؤسسات. ليست طبعاً دولاً كاملة، ولا خلقاً كاملاً، فالكمال للخالق وحده. لكنها الأقرب الى حالة الرضا بينها وبين شعوبها. يعرف البريطانيون أن ثمة فساداً في بلادهم، لكنهم واثقون من أن نسبته غير مريعة مثل غرب أفريقيا والشرق الأوسط. ويعرف الفرنسي أن بعض سياسييه قد يضعفون أمام مخالفة، مضحكة أحياناً قياساً بغيرها، لكنه يعرف ايضاً أن “المؤسسة” سوف تفضحه وتعاقبه، وقد تحرمه أعلى شرف في البلاد.

أوائل الألفية الأولى سحب الامبراطور تيبيريوس من المواطن الروماني حق الانتخاب، واعطاه عوض ذلك إعاشة من الزيت واللحم والخمر وحفلات مجانية لمصارعة الاسود و “السيرك”. بدل أن يشتري المرشح صوت الناخب، تشتريه الدولة. وفي المقابل تؤمن الغذاء واللهو. لم يعد جائراً أن النائب هو الذي يؤمن الخدمات الخاصة للناس. ولا أن يشتريهم ويشتروه. ولا أن يصبح حلم الاكثرية من شبابنا العثور على فرصة عمل في دبي. الحل في مصالحة وطنية يقودها العهد في سبيل استقرار دائم لا تشريع موقت. تحدث الرئيس عون في استقبال الرئيس الفلسطيني عن انه يجب مقاومة الأرهاب بالاعتدال. وفي الماضي كان يستنكر هذا المصطلح، ويزدريه. لكن الزعيم السياسي غير الرئيس المسؤول.
“الظروف الاقليمية” أكبر منا. لكن الظروف الوطنية لا يمكن أن تكون أكبر منا هي أيضاً. ولا يمكن ان نلغي واحدة من أجل الأخرى.