غرب معتل وشرق منهار

سمير عطاالله (النهار)

تنتهي انتخابات الرئاسة الاميركية ليبدأ العالم بدراسة أهم ظاهرة سياسية منذ الحرب العالمية الثانية: دونالد ترامب. وقفت ضده جميع صحف البلاد دون استثناء، جمهورية وديموقراطية. أعلن جميع الجمهوريين المحترمين استنكارهم لترشّحه. حذّر كبار مفكري أميركا وكتّابها من خطر أن يفوز. قال بعضهم إنه إذا تسلم المفتاح النووي في البيت الأبيض، فإن خطر الفناء سوف يهدد العالم أجمع.
لكن دونالد ترامب ظل يتقدم، مرشحاً شعبوياً أقرب إلى المهرجين، في مواجهة سيدة تمثل الاستابلشمنت الأميركي والغربي والرأسمالي. لم يخفف شيء من مناطحته، اولاً جميع منافسيه الجمهوريين، ومن ثم المرشحة الديموقراطية. هل تقول الظاهرة شيئاً؟ يجب ربطها بالتقدم المثير لليمين الشعبوي، أو المتطرف، في أوروبا، في النمسا وفي المجر وفي المانيا، أو لليسار الشعبوي في اليونان، وإلى حد ما، في اسبانيا. ولا يمكن مقارنة شعبوية ترامب بتقدم مارين لوبن في فرنسا، إلا من حيث العناوين العنصرية الكبرى. ولكن فيما أظهر ترامب سذاجة، أو سطحية، أو ضحالة سياسية، فإن مارين لوبن تطرح نفسها كصاحبة فكر سياسي ومشروع اقتصادي واجتماعي، يفوق في جديته مستويات المرشحين الآخرين. وبعكس هوائيات وخطابيات والدها الذي عزلته من “الجبهة الوطنية”، تعود الإبنة إلى افكار ديغول وتعطيه مثالاً في الخروج من حلف شمال الاطلسي، فيما هي تدعو إلى الخروج من اوروبا والأورو والعودة إلى جمهورية مستقلة بدل أن تكون قضاء أوروبياً.
واضح أن كل هذه الموجات الشعبوية تحركت ونمت بسبب الاختلال الذي طرأ على النظام العالمي بعد “الربيع العربي” الذي أدّى إلى موجة غير مسبوقة من الهجرة، ليس فقط من سوريا والعراق، بل أيضاً الهجرة الاقتصادية من غرب أفريقيا، ووسطها، وشمالها، بما فيها مصر، التي ازدهرت فيها تجارب تهريب البشر وبؤساء الاقتصاد العالمي المستمر في التدهور.
في دراسة حديثة عن كلية كينيدي لدراسة الحكم في هارفرد، أنه منذ العام 1960 ضاعفت الاحزاب الشعبوية اليمينية حصتها في دول الغرب. أما الاحزاب الشعبوية اليسارية، فزادت حصتها خمسة اضعاف. وتعزو الدراسة ذلك أساساً إلى الاوضاع الاقتصادية، أما روتشير شارما فيقول في كتابه الذائع “نهوض وسقوط الأمم” أن ازمة الغرب الكبرى، ديموغرافية. العائلات يقل عددها، والقوة العاملة تنخفض، والمتقاعدون يتزايدون. إذن، النمو الاقتصادي يتراجع.
في مثل هذا الوضع الاقتصادي المتعثر، شكلت قضية الهجرة موضوعاً متفجراً استغله السياسيون، من الهجرة المكسيكية إلى الولايات المتحدة، إلى الهجرة المختلطة نحو النمسا من اليونان وتركيا ومقدونيا.
لا خيار لنا في انتخابات الرئاسة الاميركية. إنها تدخل كل بلد، بمن ذهب وبمن أتى. ومثل عدوانية جورج دبليو بوش مثل انزواءات باراك اوباما. لكل اثره في حياة العالم. الأول احتل العراق مصراً على أنه مدبر ارهاب البرجين، والثاني بدأ الحديث عن “داعش” بالقول انه لا تعدو كونه فريق كرة سلة من الدرجة العاشرة.
وما بين تراخيات أوباما واندفاعات بوتين، نبدو نحن على حالنا الذي لا يتغير. نشكو المؤامرات ونناشد المساعدات ونتأمل، فلا نرى لنا حقاً في القرار. فالدول هي التي تتصارع عَنّا، وهي التي تتصارع عِندنا . ونحن من قرن إلى قرن، ندفع بالمزيد من موجات الهجرة والبؤس والعيون المهزومة. وسوف نقضي وقتاً طويلاً الآن في مناقشة الدور الذي لعبه أوباما، أو بالأحرى لم يلعبه، في سبيل الحد من محنتيّ العراق وسوريا.
تشبه سلمية أوباما تلك الاسترضائية التي أظهرها نيفيل تشامبرلين امام المانيا النازية. فكانت النتيجة استفحال الحرب على ذلك النحو المرعب، فيما كان تشامبرلين يظن أن النيات الحسنة تغمر العالم. هكذا، سوف يُذكر اوباما إلى مدى طويل. فهو الرئيس الذي تجنّب جميع الحروب، لكنه لم يحقق سلاماً واحداً. وبعد ما كان الخلل العالمي في ان أميركا اصبحت القوة الوحيدة، تحول الخلل إلى أن روسيا الاتحادية اصبحت هي القوة الطاغية، سواء على الجبهات العسكرية في أوروبا والشرق الأوسط، أو على الجبهة الديبلوماسية في الأمم المتحدة التي خسرتها مرة تلو الأخرى.
كل شيء إلى نهاية، ولا نعرف على أي عالم جديد سوف نصبح بعد سنوات أوباما. اقرأ في الكتاب الأخير لساحر فرنسا، جان دورمسون، التالي: “فوق هذه الأرض التي نعيش عليها، كل شيء يسارع إلى الزوال. الوقت يمضي، السنون تمضي، الحياة تمضي، ونحن ذاهبون. كل شيء يمضي، من دون أي استثناء بسيط. سعادتنا، احزاننا، عاداتنا، اعتقاداتنا، لغاتنا، وحضاراتنا. الأرض ليست سوى خراب طويل وسوف تمضي برمّتها”.
لا قاعدة في هذا العالم لشيء. أمضى نيكيتا خروشوف عهده يهدد ويرعد ويزبد، ويضرب الطاولات بنعله، ويكثر من الانخاب، لكنه ترك للروس “سوفياتا” من دون ستالين، وترك للعالم أجمع طريقاً وسيعاً – ولو قصيراً – إلى السلام. خَلَفه الحالي، لا يهدد ولا يتوعد. يزرع العالم من بيادر غروزني.
نعيش الآن نسخة مشابهة تماماً لنهايات الحرب العالمية الثانية. أرض محروقة، وروح محروقة، وطريق مسدود بالحريق. العام 1978 كتب سعيد فريحة “جعبته” الشهيرة عن الأذى الكارثي غير المباشر الذي الحقه تشامبرلين بسلام أوروبا ومصيرها. صدّق الخدعة النازية (كما صدقها ستالين)، وقاد بريطانيا من هزيمة إلى أخرى، إلى أن جاء الرجل الذي قال سوف نقاتلهم على الشواطىء وفي البحار وفي الشوارع وفي البيوت. ذهب تشامبرلين نموذجاً في العلوم السياسية على “جبن الاسترضاء” الذي يؤدي إلى الهزيمة. ولو كان سعيد فريحة حياً لرأى كم من الكتّاب والمفكرين يشبّهون اثر أوباما في اهتزاز العالم، بالسذاجة التي تعامل بها تشامبرلين مع اخطر أزمات أوروبا.
فجر الألمان المندحرون خلفهم كل شيء. فرصوفيا بيتا بيتاً. وفجر السوفيات المندفعون كل شيء، ورفعوا اعداد اللقطاء. في الموصل وحلب وقبلهما في الرمادي، الفريقان يكرران ذلك الفصل من التوحش. قبلهم احرق صدام حسين نفط الكويت وكأن مفاقمة الكارثة تعويض للهزيمة: “الهلال الخصيب” رماد وحجارة متراكمة وتحتها أطفال لا يصدقون أن هذا ما يفعله بهم الكبار.
في ذاكرتي المهنية أننا كنا دائماً ننتظر نهاية عهد رئاسي أميركي، متأملين بالعهد التالي. وكنا نتوقع من الرئيس العتيد ما لم يعرضه الرئيس العتيق. لكن “مطلبنا” كان محصوراً بـ”القضية المركزية”. اتسعت القضية الآن إلى أن اصبحت الوجود العربي كأمة قابلة للبقاء والحياة، ناهيك بالنمو والتطور والمكانة العالمية. من “قضية مركزية” إلى مجموعة قضايا مستعرة ويائسة. ومن حرب واحدة في وجه اسرائيل إلى مجموعة حروب مريعة ومحرقة في الداخل. وأما القضية نفسها، فقد دخلت المرحلة الأخيرة من التعريب: مَن يخلف مَن؟ وإلى الأبد؟