دكاكين أسيوط

سمير عطاالله (النهار)

تقول طهران إنها لن تسمح للتأثير الأميركي بالتسلّل من خلال الاتفاق النووي. لكن الحقيقة أن الولايات المتحدة أخفقت تماماً وفي كل الأرض، في الفرض، أو في التسلّل، من طريق القوة. من فيتنام إلى العراق، مروراً بوعورات الدنيا في أفغانستان، فشلت في تحقيق أي حسم. كادت تذهب إلى حرب كونية تعدم الحياة على الكوكب، بسبب كوبا، وبقي فيديل كاسترو يلوِّح لسكان البيت الأبيض الواحد بعد الآخر، من كينيدي، أول رئيس كاثوليكي، إلى أوباما، أول رئيس مسلم وأسود.
الذي يجب أن يخيف في القوة الأميركية ليس وسائل الموت بل وسائل الحياة. انهارت الشيوعية السوفياتية ليس بسبب “درع النجوم” كما قيل، وإنما بسبب غزو الأشياء البسيطة. أو الفائقة البساطة: الجينز، والكولا، والهامبرغر، وفستان مارلين مونرو، أبيض، مرفرفاً في الهواء وهي تحاول ردعه. تداعت روعة اللغة الفرنسية أمام لغة إنكليزية مبسّطة، إذا عرفتَ منها مئة كلمة تستطيع أن تقوم بجولة حول العالم. عندما سافرت إلى باريس أول مرة رأيت مدينة اللوفر تتحوّل نحو Les quicks. وداعاً للمائدة الاحتفالية ومهرجان الأجبان و”آداب” المائدة.
أواخر الستينات، أصدر البروفسور إيتامبل قاموسه Le Franglais ينعى فيه نقاء لغة الأكاديمية. لقد انتهى الأمر. ومن يومها أعلنت الأكاديمية استسلامها، وصارت هي التي تقرّ كل سنة، تحت ذقن ريشوليو، الكلمات “الأميركية” التي يجب القبول بها:
. L’interview, Le week end, Les girls, Les gentlemen,Le business, Les outlet-
هُزم الاتحاد السوفياتي، كما شكا رجاله علناً، يوم تمنّعت أميركا عن إعطائه سرّ “الجيل الرابع” من الكومبيوتر. وأغنى شركات الأرض الآن هي التي تصنع “الآيفون” وليس الدبابات. تقول كاتبة أميركا جوان ديديون إن كاليفورنيا ازدهرت على شركات التسلّح والصناعة الكبرى، فلما تراجعت هذه، أفلست الولاية. ثم جاء الحل بإقامة “وادي السيليكون”. وادي الرقائق، لا المصفحات.
تفوّقت أميركا في وسائل الحياة والتقدّم. السينما والتلفزيون وتجميع الكوكب في علبة كبريت تُعرف باسم الكومبيوتر، أو “الحاسوب الآلي”، وهي ترجمة لشيء أبعد من جميع أشكال الحساب، وأكثر سحراً من كل آلة عرفها البشر منذ أن انتصر توماس أديسون في سباق الكهرباء، إرضاء لمساهمي شركته، الذين كادوا يفقدون ثقتهم في هذا الرجل الذي يُتأتئ، والاجتماعي البليد.
مهراجات اليوم لا يركبون الأفيال المرصّعة الهوادج. ثلاثة كبار أغنياء العالم: بيل غيتس وكارلوس سليم ووارن بافيت، يبيعون سلعة واحدة تقريباً: التكنولوجيا.
تتألف الحياة من أشياء بسيطة. رغيف وسترة وراحة بال. تقع الكارثة عندما تخفق الدولة في تأمين أي منها. وتتوسّع عندما يخفق الشعب (اسمه الحركي) في العثور على مدبّر للحياة بدل الزعيم. وتتعمّق عندما لا يُدرك الجميع أن الغرق في الفساد، والغرق في النهب العلني، والغرق في الذات، والغرق في التبلُّد، والغرق في النفايات، هو غرق جمعي ورماد مشترك، وانحدار نحو الزبالة.
الثورات الكبرى عبر التاريخ هي ثورات النمو والتحسين. الثورة الصناعية، أو ثورة “الصرف الصحي” التي ألغت الأوبئة ورفعت مستوى الأعمار، والثورة الزراعية التي خفّفت عبودية الفلاحين وعذابهم، والثورة المعلوماتية التي جعلت كل مواطن مراسلاً وعضواً في لجنة حقوق الإنسان.
“الثورة الثقافية” التي أعلنها ماو تسي تونغ وسلّمها إلى زوجته، انتهت إلى مليوني قتيل أضيفوا إلى 50 مليوناً. من فرائضها كان إحراق أي لوحة يعثر عليها في أي بيت، وتحطيم أي أسطوانة كلاسيكية، ثم التشهير بالمُرتكب عدو الثورة وإعدامه. في الثورة الجديدة، يبيع الصينيون الملابس الداخلية الملوّنة جداً في أسيوط. وأحد الزبائن في بني سويف شيخ يحضر إلى المحل (نيويوركر) مع زوجتيه المتبقيتين. واحدة تفضّل اللون الأحمر والثانية متمسّكة بالأزرق.
لم يأتِ صيني إلى مصر ومعه نسخة من “الكتاب الأحمر”. إنهم يبنون أسواقاً حرة في الصحراء ومصانع لتجميع الهواتف النقالة (الأميركية) لكن أكبر تلك المصانع لا يزال مصنع الثياب الداخلية الملونة! يُعوّض النقص كل سنة، باستيراد المنقوص من البرّ الصيني، جاهزاً للاستعمال.
بدل “الكتاب الأحمر”، نايلون أحمر. أو على ما غنّت شريفة فاضل، “العتبة قزاز والسلّم نايلون نايلون”. هل يمكن أن يُخيَّل إليك أن بلاد القطن سلّمت أمر الصناعة للنايلون الأفاقع؟ ثمة وجه سيّئ للثورات العلمية الكبرى، لأنها أدّت جميعاً إلى ثورة الاستهلاك. تغمر العالم اليوم شهوة جامحة إلى المقتنيات السريعة التحول، من الثورة الصناعية نتجت حضارة متصنّعة ومقاييس اجتماعية مفتعلة وفروقات إنسانية جامحة ولا تُطاق.
صحيح أن الرأسمالية قد انتصرت في توكيد دورة الحياة، لكنه انتصار كاسر، تخفّفه “صحوات” رجال أمثال (أيضاً) بيل غيتس أو وارن بافيت الذين تبرّعوا بثرواتهم لترويض العوَز وأنياب الفقر. وقد انضم إليهما، بنسب متفاوتة، نحو 500 ثري آخر، أوكَلوا إدارة التبرعات إلى غيتس، “أم تريزا” الأغنياء.
وليس صحيحاً أن الديموقراطية لا تتعايش مع القيَم الروحية الشرقية. إليك الهند واليابان وكوريا الجنوبية التي ترأسها امرأة، ويأمل وزير خارجيتها السابق، بان كي – مون، في نوبل للسلام. الصينيون الذين يبيعون الملابس الداخلية في أسيوط، يحملون في داخلهم ثقافات كونفوشيوس التي لم تستطع “الثورة الثقافية” القضاء عليها، ولا خروج الصين إلى عالم الاستهلاك، الذي امتلأ هو أيضاً بالظواهر المرضية.
مثل الولايات المتحدة، تتّجه الصين إلى العالم عبر “القوة الناعمة”. وبسبب افتقارها إلى شيوع اللغة والفنون والآداب والتقدّم العلمي، تسعى إلى ذلك من خلال المشاركة الاقتصادية. وفي هذا الباب اللامحدود الأهمية، لم تتجاوز الغرب، لكنها بالتأكيد تجاوزت شريكها الحالي ورفيقها السابق المعروف اليوم بالاتحاد الروسي. إنها تدفعه أمامها في السياسات الدولية، وتخلّفه وراءها في “غزو” البلدان والقارات. وإذ يملأ رجالها غابات أفريقيا ونساؤها دكاكين الصعيد، لا يطلبون شيئاً ولا يفرضون شيئاً ولا يناقشون في شيء.
وفيما يصرّ الكرملين على إحياء تدافُع الحرب الباردة مع أميركا، يحرص الأمبراطور الصيني على أن يظلّ من دون اسم. وسوف نفيق بعد قليل لنكتشف أن أفريقيا “صُنعت في الصين” وأن أكبر رموز أميركا أصبحت مُلكية صينية: من مزارع النبيذ في كاليفورنيا، إلى صيدليات جونسون، صاحب شامبوان الأطفال.
نحن المنطقة الوحيدة في العالم التي لا تزال تعمل بقانون القوة العسكرية، حيث تقف على طرفيها ثلاث قوى غير عربية: إيران وتركيا وإسرائيل. وتشلّ العالم العربي قوة، سلبيتها أكثر فظاعة، هي الحرب القائمة بين الاعتدال والتطرّف ضمن المسلمين… وقَوام هذه الحرب ليس السنّة والشيعة، بقدر ما هو قوى التطرف لدى الفريقين. وعندما تحدّث صامويل هانتنغتون عن “صراع الحضارات” وأقَمنا الدنيا عليه، هذا بالضبط ما كان يعنيه، أي الصراع “ضمن” الحضارة نفسها، بين التفسير والتأويل، بين العدم والوجود، وبين الحِلكة والنور.
ما هي علامة أو دلالة الوجود؟ التفكير، يقول المنطق الديكارتي. التكفير، تقضي السطحية العدمية. لذلك كان الوسط مكان التقاء كبديل من ساحة وغى ورغو وزبد. في الوسط تتلاقى العقول من أجل البحث عن وسائل ووسائط والوصول إلى ارتضاء شبه عام، لكن الغضب يرفض هذه السعة لأنه يجد فيها هزيمته. كل منطق، هزيمة مسبقة له. كل مصالحة نقض لمفاعيل الصراخ واستثمار الغُلب. ولكن لا غالب إلا الله، كما رفع عرب الأندلس شعارهم. ففي النهاية هُزموا جميعاً. هزمهم ثرثاروهم وموتوروهم وسفهاؤهم وأدعياؤهم.
مضى الزمن الذي كانت فيه أريحا تسقط بالأبواق. مضى. يجيء الصيني من شانغهاي إلى أسيوط لكي يتاجر بالنايلون بدل الحرير، من أجل أن يعيش. يتاجر بالجنيه المصري الضعيف بدل اليوان المُستضعِف. تاركاً خلفه في متحف بكين “الكتاب الأحمر” وخُطب ماو عن مزابل التاريخ وانهيار الرأسمالية. ومحاولاً أن ينسى سنوات الغضب التي دمُرت عقوداً من السكينة والحياة. انتصرت ثورة الاستهلاك بكل معايبها وإجحافاتها، بسبب توحّش “الثورة الثقافية”. إسرائيل ليست صناعة التفوّق الغربي، هي صناعة التخلّف العربي. حارسها الأكبر.