“ستريو”

سمير عطاالله (النهار)

تحولت “تويتر” في الآونة الأخيرة، من تغريدات إلى جبهات، اكثرها اشتعالاً جبهة دونالد ترامب مع الكون، وجبهة وليد جنبلاط مع السياسات اللبنانية. الثانية أخف ظلاً ووطأة. تجمع بينهما السوريالية. وكان ميخائيل نعيمة، أو جيله، قد ترجم السوريالية حرفياً بأنها “فوق الواقع”. أما المقصود بها فهو ضد الواقع. ورفضه. والسخرية منه. انظر إلى لوحة لبيكاسو، وكيف تصبح العين أكبر من الساق. وهلمَّ جراً.

أي سوريالية يمكن أن تصور الواقع اللبناني الذي يتخطى التكعيب والتشكيل وباقي البدع؟ ثوب انتخابي واحد يضيق في البقاع، يتسع في بيروت، “يزمّ” في طرابلس، يستوي في صيدا، مفتوح في جزين، مشلشل في كسروان، موسّع في جبيل، و “نوفو شيك” في البترون. نحن على رغم كل شيء، بلد مسل على الأقل. وقوانيننا مثل الدستور الاميركي، تعديلات وتقاسيم على القانون: تجديد لمرة واحدة. تمديد لنصف مرة. وازمة إلى الأبد.
ومن اجل أن نصون كرامة الدولة والسيادة، ماذا نسمي كل ذلك؟ نسمي هذه الفِلاحة في الثوب الوطني الاقتراعي، قانوناً. ليس إلاّ. ولكن ماذا نفعل إذا كانت هذه هي الخريطة الطبيعية للبلاد؟ مونو ومار مخايل، في الوسط. الخمر ممنوع في قانا. وفيروز ممنوعة في كفرشيما، التي خرج منها فيلمون وهبي ليلحن لها: يا دارة دوري فينا. وضلّي دوري فينا. وبما أننا نعيش في مدار صوت فيروز، فإن الدارة لا تتوقف عن الدوران. ولا تهدأ، وقد وصلت الدورة إلى ذروتها الاسبوع الماضي، عندما وقف عزيزنا مروان حمادة في معراب يطلب “عدم تهميش الآخرين”. الاشتراكيون، من القوات. عندما ابتدع أبولينير مصطلح “السورياليزم”، كان يقصدها في الشعر. هو وبضعة متسكعين من شعراء حي “الاوديون”.
عمّت وتوسّعت ورأت فيها السياسة حلاً مريحاً في الأوقات غير المريحة. هاك، بعد تسعة عقود من استقلال سوريا، ومشكاكُ قرون من بني أمية، موسكو تُرسل إلى دمشق مسودة دستورها الجديد، وقد خلا اسمها العَلَم من هوية العروبة. الجمهورية السورية وكفى، عربية Nyet .
في الستينات، أو السبعينات، قررت الدول الاسكندينافية أن تنتقل من نظام السير البريطاني إلى الاوروبي. وتبين أن الكلفة هائلة. كل شيء سوف يتغير مع تغيّر المقود من اليمين إلى اليسار: لافتات الطرق، وحساب المسافات، ووضع المقاعد الأمامية، واشارة الالتفاف، والى آخره.
في الحلول السوريالية تلغى الجمهورية العربية السورية، والجيش العربي السوري، والهلال الأحمر العربي السوري، وبند إلى الأبد، من “قلب العروبة النابض” الى سوريا مجردة!
في “فيلم اميركي طويل” يدوخ أحد أشخاص المسرحية من كثرة الازدواجيات من حوله، فيسمي كل شيء “ستريو”. ستريو. روسيا “العلمانية” محاطة بحليفين في القضية السورية والدستور الجديد: الجمهورية الاسلامية الايرانية، دستورها المذهب الاثني عشري، وتركيا، نظام الأخوان المسلمين المعلن.
الغت روسيا صفة، أو هوية “العربية” عن سوريا بداعي احتضان العرق الكردي. ولكن “ماذا في الاسم” على ما قال الانكليز؟.. كان المطلوب في سوريا والعراق و(ايران) ان يكون الاكراد مواطنين أول في ظل عروبة سوريا، وألاّ يطاردهم العراق إلى جبال البارزاني بالميغ، التي كانت لها حسنة وحيدة يومها: “ميوبي”. و إلاّ لما بقي في اربيل أحد.
كنا قد أسررنا لجنابكم، قبل شهرين، أن فلاديمير بوتين هو “مساح الشرق الجديد”. عفواً. كان هذا نقصاً فاضحاً في معرفة الطبع الروسي. إنه ايضاً، خياط الشرق الجديد: الثوب الجديد كاملاً. هذا نقيض واضح للطبع الاميركي الذي يشبه مشاريع قانون الانتخاب عندنا: رقعة من هنا، كشكش من هناك. اذكر يوم كنت في القسم الخارجي في “النهار”، أننا اصبنا بالدوار ونحن نلاحق هنري كيسينجر يقطِّب ويرتق وينقل الكشتبان من اصبع إلى أخرى، فوضعت عنوان التعليق ذات يوم “الرتّاق”. وقد استعرت الصورة العفوية من بائع بَكر وخيطان في شارع اديب اسحق. وكان، رحمه الله، أغشى، أعشى، ويده ترتجف في الرتق. لكنه كان الرتاق، أو “الرتى” الوحيد في الحي.
هل نحن قوم نثير العطف؟ أنا لم أقل ذلك، لأنني لا أعتقده. بالعكس، نحن قوم “طيبون” على ما يقول اخواننا السودانيون عند القاء التحية. لكن الحياة نفسها، ذات نزعات سوريالية. مثلاً، (فقط مثلاً)، وقَّعت اكبر دولة عربية اتفاقاً في شأن أهم قضية عربية، على بعد 10 آلاف كيلومتر عن مصر وفلسطين، في كمب ديفيد. والعام الماضي – مثلاً – احتفلنا بمرور قرن على ذلك الاتفاق الاستعماري، السير سايكس والمسيو بيكو. وما أن خرجنا مهللين من سايكس – بيكو حتى دلفنا إلى الأستانة، الاسم الذي يثير في ذاكرتنا أربعة أو خمسة قرون من “الباب العالي”. ستريو. وضلّي دوري فينا.
صحيح إنه ليس “فيلم اميركي طويل”، لكنه لوحة سوريالية بالاحمر: ودائماً نحن نقدم الأرض وأهلها. وبعد ذلك نتحول إلى بنود. ونترك التوقيع للرسامين. ما هذا الحظ يا مولانا، أن يولد المرء على طرق الامبراطوريات. ما أن تظن أنها غفلت حتى يطل قورش وسليمان القانوني وبينهما بطرس الأكبر. وفي المقابل، سايكس وبيكو شامتان وقد بُريَت اقدامهما هرباً من المطاردة. أليس مسكيناً من يولد على الطرق الإمبراطورية؟
بعد 70 عاماً من الاستقلال، سوريا تبحث عن دستور، ونحن نبحث عن قانون انتخاب. كأنما المسألة في استعارة الدساتير والنصوص، وليست في إقامة العدالة والانصاف والحقوق. هل يحل الدستور السوري، أو قانون الانتخاب اللبناني، المشكلة؟ ويحلها الغاء غريزة الإلغاء، الدستور الذي يحتضن جميع مواطنيه من غير أن يعرف شيئاً عن عروقهم وانتماءاتهم، والقانون الذي لا يفرق بين ناخبيه في منطقة وأخرى أو طائفة وأخرى. لقد خرج للتو من البيت الأبيض رجل كان ممنوعاً على والده الدخول إلى مطعم للبيض. لكن الحياة كلها ستريو. فقد دخله رئيس يشير الى الناس ببلدانهم وطوائفهم، مخالفاً كل نصوص وروحيات الدستور الذي أقسم عليه، أو القانون الانتخابي الذي جاء به. ستريو.
أعرف حكايتين متشابهتين أحب أن ارويهما لجنابكم. الأولى، عن حكيم الصين ومبشرها، لاو تسي. هذا الرجل أمضى سنوات طويلة يكرز في تلامذته دروس البرِِّ والسويّة. وفي النهاية، تبين له أنه ينحت في بحر، فانقطع الى البرية يمضي بقية العمر وحيداً. والحكاية الثانية عن يسوع المسيح ابن مريم، الذي أمضى شبابه يعلم بالامثال، ما بين الجليل وجبل الزيتون. وإذ تأمل يوماً ووجد الديك يصيح على بطرس، والصليب يُعَدّ له على الجبل، وبيلاطس يبحث عن صابونة يغسل بها يديه وضميره، أعلن يأسه قائلاً: مملكتي ليست من هذا العالم.
سوف يصعب علينا ايها الرفيق فلاديمير فلاديميروفيتش، أن نعتاد سوريا مقلمة الاسم الثلاثي. وهل تعرف ما هو أكثر صعوبة؟ أن يأتي الطلب من لدنكم، فكم كانت العروبة فتاة الروس المدللة. لكن الدنيا تتغير، والدارة تدور، ومن لا تعجبه فرائض القوة، فليذهب الى البرية ويعد أسراب السنونو مع لاو تسي. أما الباقون هنا، فعليهم أن يتقبلوا العالم كما هو: اوامر ترامب التنفيذية، ورغبات بوتين. ستريو.