إنتصار ” ترامب”: الحماقة تصفع ثقافة الانحطاط!

بشار العيسى (الأنباء)

في شباط \ فبراير 1848 نشر ماركس وإنجلس في البيان الشيوعي:

“شبحٌ ينتاب أوروبا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح إتحدت في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني”.

marx_and_engels

شبح الحرية، يواجه بحروب فوضوية!

نحن في نهاية سنة 2016، على مسافة أكثر من قرن ونصف على ذلك التاريخ والشبح الموحد لقوى الشر الكونية، وليس أوروبا وحدها هو “شبح الحرية” الإنسانية والقيم والكرامة التي أهينت لأكثر من قرن ونصف رغم عديد العقائد والحناجر التي نادت بتحرير الإنسان: الفرد، الطبقات، المجتمعات، من العبودية.

منذ بدايات عهود العبوديات التي رافقت إمبراطوريات عديدة في الشرق والغرب حيث أبيدت سلالات وسلخت جلود أخر ووشمت جباه التاريخ بالحديد المحمَّى، إلى يومنا هذا، إجتهدت عقائد دينية وتمردات عبيد وحروب بينية وفلسفات وضعية وايديولوجيات ثورية (هدفت) إلى تحرير الإنسان أو طبقات.

لكنها في النتيجة كانت مجتمعة تضيف إلى عبودية الإنسان الفرد والجماعة قيوداً جديدة اقفالا ثقيلة تزيد من ثقل السلاسل ليس في يديه وقدميه وحسب بل وصدره وعقله، ودائما بحجة ضرورات تنظيم القوى وتنظيف العقيدة وتشذيب الايديولوجيا وحماية الطبقة والحزب والدولة السلطة من أجل الهدف الذي كان يضيع في عبودية أشدّ ضراوة وإحتقارا للإنسان.

%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a8%d9%88%d8%af%d9%8a%d8%a9

بالصورة الهزلية والفضيلة المنحطة التي صعد بها “دونالد ترامب” كرسي شريف السلطة في أميركا، مستنقع العبودية الأشد هولاً في التاريخ مثلما هي في الوجه الآخر رمز الثورات من أجل الحرية وحقوق الإنسان والتحرر والصياغات الدستورية والتعابير الفكرية عن قداسة القانون وقدسية الحرية الفردية والإقتصادية، ما كان له أن يتم لو لم يأتِ في زمن “بوتين” ودولة “الخلافة البغدادية” وولاية الفقيه والصراعات الجهادية والخطب التكفيرية للآخر وتجاهل القيم قيم الإنسان والثقافات الكونية والمعارف الإنسانية وحتى الفضائل الدينية التي مرِّغت بفتاوى وحروب ومهازل انحطاطية لم يكن العالم العلماني بعيداً عن صياغاتها وبؤر تخمرها.

ما كان لخطاب “دونالد ترامب” أن ينجح ليس ضد خصومه بل وضد اركان حزبه الجمهوري. لولا درجة من الانحطاط القيمي للأخلاق التي أصبحت تميز حكام العالم عن تاريخ بلدانهم وثقافاتها. أزال خطاب ترامب الأقنعة عن تلك الوجوه التي تحدث عنها البيان الشيوعي ورجال المراحل الاستعمارية والحروب الكونية والباردة.

ما كان لترامب أن ينتصر لو لم تصوت شرائح معينة هي أكثرية القاع في المجتمع البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، لو لم يتحكم وسيتحكمون لفترة متقاعدون وكبار في السن وعاطلون عن العمل وشرائح فقيرة عمالية وريفية خائفة من فقد القليل من الإعانات الإجتماعية التي يتوهّمون بخطاب مسعور وسلوك غير مسؤول لآخرين. إن موجات مهاجرة جائعة تأتي لتأكل في صحنهم ويشاركهم في رفاهيتهم الأخيرة من أعمارهم.

خليط غريب عجيب من قواعد الأحزاب المتصارعة ضد توجهات قياداته المهلهلة والفاسدة. هذا الجيش من المقترعين المتيقظين باكراً للذهاب إلى صناديق الانتخاب في مواجهة أجيال شابة بثقافة تفقد الثقة بالسياسة مصدومة تنكفيء أكثر فاكثر على شاشات حواسيبها وفضاءات (غوغل أو ميكروسوفت أو أمازون والخ) المضيئة.

ما كان لترامب أن ينتصر لولا السياسات اللاأخلاقية اللاإنسانية لقادة دول ذات إرث عريق في القيم والمعارف الكونية وإشاعة صراعات حضارية وثقافية ورفع رايات صليبية في مواجهات جهادية لكل منها حاضنة جائعة أو متخوفة من الجوع أو حالمة بالجنات، فالسواطير التي شحنت إلى سوريا وليبيا والعراق تمَّت وتتم برعاية قوى فاعلة متآلفة في صراعات وهمية تشيطن الحرية وتهدد الإستقرار وترفع الاسوار والجدران العازلة بين الشعوب وتغلق الممرات من أجل التنمية المتكافئة المتكاملة وتثبيت واقعية شعارات المساواة والحوار والسلام على أرض التنفيذ. قوى يوحدها الخوف من شبح بل أشباح الحرية التي إن نجحت في مكان ستعمم في أماكن وخنادق عديدة.

 أتى ترامب وإنتصاره هكذا، في لحظة عابرة للضمير الإنساني المتبلد لتضيف نقطة على سطر من التاريخ الكوني بعد مئة سنة من المسكنات والجراحات لضبط إيقاعات الحرية والتمرّد في المجتمع الكوني. تمتليء الدروب بجراحات ومعتقلات ومعازل وهجرات ونقل سكاني وتهديد يومي للطفولة والامومة لصالح سلطات أقلها عمرت عشرين سنة ومهزلة بوتين الجمهوري التحرري بقيم واخلاق ومعايير هتلرية.

Roser 02 (Chip)

لقد حقن العالم المجتمعات الأكثر عرضة للتمرد بشحنات أسلحة ومقاتلين وهامشيين من الضواحي من بلفاست * وجنوب أفريقيا وباكستان والصين وإيران والشيشان والجمهوريات الروسية الإسلامية وبؤر توتر أشد ضرراً على العالم المتحضر لراحته إلى سوريا والعراق وأفغانستان والآن يتم تجميع كل هؤلاء في سوريا، بلدي.

ما كان لرجل مثل “ترامب” أن يدخل البيت الأبيض لولا اللغة الخشبية البلاستيكية المدهونة بالزبدة الرخيصة للرئيس أوباما بحجة حفظ أرواح الأميركيين مقابل هدر أرواح غيرهم وعدم تلويث النوبل بالدم الأميركي الأزرق..

على عكس ما أظهر العالم تفاجئه بانتصار ترامب وخطابه وشعاراته، التي ظل شبح مصطلحاتها تحجز شاشات التفزة وصفحات الجرائد ومنشورات الكتب ويتردد صداها قشرة الغلاف الكوني منذ عشرات السنين وتعشش القصور والإدارات الحاكمة في العالم وتحتكر السطوة على الإعلام والجوائز والمؤتمرات التي تحرّكها مراكز قوى مالية عولمية تجاوزت في تغوّلها كل ما كان ساد من مفاهيم عن الاستعمار والإمبريالية والشيوعية والاقتصاد الموجه والجنة والنار.

المشهد

بحار ومستنقعات من الماء الممزوجة بدمار لا حدود لفوضاه، عالم أسطوري يتخلل هتاف الحرية صراخ أطفال واشباح ضحايا وأمهات وأقدام تلتصق بالدروب المزنّرة بالسواطير والاسلاك الشائكة، وأحلام تذروها رياح قصف الديناميت في تفجره الحاقد وقصص الحب وحكايا العشاق تتجمد في غبار كوني. كانت لنا ثورة وثورات!

تآلف غير مسبوق بين قوى الشرّ متعددة الجنسيات والعقائد والآلهة، إنقلبت المفاهيم التي كانت يوماً لخير القيم: التدخل من أجل الحماية صار التدخل من أجل وأد الحرية والتمردات والأحلام بالانعتاق.

منذ أن هبّت رياح الحرية في نهاية 2010 تبين للأعمى: وحدة وتفاعل الأنظمة الكونية في مواجهة القيم الإنسانية. لقد تبلَّد الضمير الكوني منذ أن مُنح أوباما جائزة نوبل للسلام في بدء ممارسته لوظيفته كرئيس أسود لأعرق دولة عنصرية في العالم، ومنذ ان صار أردوغان نجما للديمقراطية والحريات ونتنياهو شارحا للعدالة الاستيطانية وبوتين قيّماً على تراث الـ “كا جي بي” في حلَّة ديمقراطية بقوة تدميرية، ومنذ أن أصبح ولي الفقيه يكلّم أشباح الفضاء الخارجي بإثارة أحقاد مضت عليه 1400 سنة وقد أهَّله إحتلال أمريكا للعراق وصياً على مصائر الشرق الأوسط مع مسوخ أخرى.

nobel-peace-prize-obama

تفجرت في الأطراف الهشة لمراكز الصراع والثروات بحروب إستباقية في صيغة دعم ثورات الحرية زجَّت فيها قوى فالتة لكن منضبطة بتحكم قوى دولية وإقليمية وحواضن محلية بتمويلها. لقد جوَّعت هذه الحروب ومسَّخت بالعبودية كرامة مجتمعات الثورات بعدما إقتيد مئات آلاف الشباب الثائر إلى عتمة الموت والغياب.

صحيح أن هذه الحروب كلفت القوى الكبرى مئات مليارات الدولارات الوهمية، لكنها قضت على أرواح ومصائر ملايين الضحايا في العراق وفلسطين وأفريقيا وافغانستان والشيشان وكردستان وأخيراً سوريا.

شبح الحرية المقلق

منذ الثورة الطلابية الفرنسية 1968 تتم عمليات مطاردة أشباح الحرية بالاستحكامات القابضة على أدوات الصراع لشيطنة الحرية بالفوضى المنضبطة. فالحرية تخيف المسيطرين وتجار العبيد.

%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b6%d8%a9-%d9%85%d8%a7%d9%8a-1968-%d8%a8%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d8%a7

لم تعد الأحزاب وبرامجها أكثر من مخدّرات براشيتة رسمية، مخدر لفظي يزيح إلى الهامش المجتمعات بصراعات وهمية تجاوزت مفهوم الطبقات وصراعاتها وتناقض وسائل الإنتاج مع قوى الإنتاج. لقد تكفلت زجاجة حليب وغرامات من الزبدة بتعميم العبودية الطوعية للاستهلاك. وانتفت المجتمعات عن أن تكون حاضنة لصراع طبقي فغدت محميات للعبودية التي كانت تتبع الامبراطوريات المقدسة التي يقف على رأس كرنفالها كهنة وحكام وقادة عسكريين وأسر حاكمة وأخرى تتوالد. لقد غدا الصراع قتال “غلادياتورات” عصرية ببنادق سريعة الطلقات.

صارت العولمة ومعاييرها ومؤسساتها الشبحية وأسواقها ومراكز القرار فيها أشبه ما تكون بتعاليم مقدسة وألغاز سحرية ترمي بشكل غير مباشر مزيدا من الكتل البشرية إلى اليأس والقنوط وفقد الأمل بحياة حرة أو بمستقبل آمن، بغير رمي نصف الأسرة من القارب المتهتك إلى البحر.

منذ القضاء على تمردات الحرية الطلابية سنة 1968 تكالبت مسوخ ما قبل العولمة والثقافات الهجينة والسياسات الموجهة بفوبيات يتم فبركتها في مختبرات خفية تعمل لانتاج الإنسان الـ “روبوت” (إنسان فرد وإنسان بصيغة جماعات وشعوب ملحقة بمصالح مراكز العولمة ورأس المال أو عالم المال او قوى المال او مراكز التجميع للهجرة في قوارب الموت) في حظائر دون انسانية لكائنات لم تكن تحظى بقيمة ولا بصفة الانسان.

لقد رمت صراعات الدول الكبرى عسكريا واقتصاديا، شعوب ومناطق وجغرافيات وأجيال وأحلام شبابية إلى الركض من خلف لقمة خبز أو صحن رز أو مادة إستهلاكية تتجدد كل لحظة لقد تم تحويل أجيال شبابية إلى وسائل إنتاج بدل أن تكون قوى إنتاج وشريكة في الإنتاج والمحاصصة.

المذهبية وفوبيا الصراعات الدينية

لقد أتت الخمينية في صيغة ثورة الحرية لتدجين الجنين الذي أطلقته الحركة الطلابية العالمية لتحول دون ولادة الزخم الجنيني في أعماق المجتمعات الفقيرة (وخاصة المجتمع الإيراني) والآسيوي.

وبدل أن تصبح الخمينية الشعبية المليونية ملهمة لتحرر الشعوب فإنها تحولت بفتنة الصراع المذهبي كابحا للصراع من أجل الحرية وتعويضا عن الصراع الطبقي بالخصومات الموجهة، غدت ولاية الفقيه الغيبية عقيدة لتمزيق العالم الإسلامي بشعوبه الفقيرة وثرواته الهائلة وطاقاته الشبابية الضخمة وخصوبة نموه السكاني.

BE069300

لقد زجت الحرب العراقية الإيرانية بملايين الأطفال على جانبي الحدود في عمليات قتل وموت مجاني بنوع من التجنيد الإجباري الطوعي تحت يافطة العداء لأمريكا أغرق الشرق الاوسط بحروب محلية شعبية وذهنيات ما ورائية وانقسامات أفقية وعامودية في الطبقة الواحدة والجغرافيا الواحدة والمعسكر الواحد ومازالت تؤدي هذا الدور القاتل المقيت.

أتت ثورات الربيع العربي ثورة الحريات والكرامية في وقت كانت العبوديات قد صارت ثقافة والفساد تعمم والقمع غدا مادة استهلاكية مع جرعة الأوكسجين الملوث.

 فشلت جميع هذه الثورات والتي لم تفشل أصبحت جهنّم ومقصلة ونارا تحرق شعوبها بحروب وتدمر بناها وتلغي كياناتها بسيطرة جيوش جوالة كما فرسان القرون الوسطى بل مثل الطاعون عابرين للحدود والهويات والثقافات تزيلها وتمسخها بالسواطير والغيبيات الفاجرة التي تلغي العقل.

تتدمر مراكز حضرية وتندثر دروب مواصلات وتزال بنى تحتية حياتية وتتدهور الزراعة وتمحى الأسواق المحلية وتلغى الحدود بفوضى تسرّب السلاح المنظم بالتمويل والعبور والمقاتلين والمهاجرين لقد طغت الكوسموبوليتية العَدَمية على الأوطان بقيم مجتمعية.

لاجئين

تنعدم الصناعة الوطنية بالهجرة وتنشأ على أنقاضها محترفات حربية تنهب ثروات البلاد بطرائق لم يرها زمن الإستعمار بفوضى معممة تدفع كل يوم بكائنات إلى الهرب أو الانخراط في التقاتل.

لقد غدت الحروب “رب العمل الوحيدة” على جغرافيا ممتدة من حول مراكز الثورة تستولد تفدق مهاجرين عبر البحار باهوال تجعل من أمثال ترامب واليمين المتطرف المخلص المنقذ لدى العامة الخائفين المطاردين بأهوال إعلامية فاحشة التلفيق والسطحية التي تحول المزيد من سكان الدول المتحضرة أسيري فوبيا دينية ومهاجرين وبطالة بغياب برامج تنمية فاعلة أو مصارحة أخلاقية لا تثمر في صناديق الاقتراع.

لقد أصبح العالم بحاجة إلى إعادة تأهيل وإصلاح ثقافي وأخلاقي.

قد تصبح صفعة الحماقة هذه، فرصة لصحوة لا يجوز أن تتأخر حتى لا تعيش الانسانية واحدة أخرى كوارثها المهازل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وليد جنبلاط*

خلال رحلتي في نيسان الماضي إلى بلفاست (عاصمة ايرلندا) التي أمضيت فيها يومين، التقيت بقسّ ميثودي حصل على تفويض من السلطات البريطانية لمحاولة وضع حد نهائي للصراع بين البروتستانت والكاثوليك في ايرلندا الشمالية. كان عليه الإشراف على إنهاء السلاح غير الشرعي لـ “الشين فين” (الجناح السياسي للجيش الايرلندي الجمهوري المناهض للاستعمار البريطاني) بطريقة يصبح فيها “بعيداً عن المتناول وخارج الاستعمال”. سألته سريعاً ما يعني ذلك، فقال بكل تأديب “لا أستطيع أن أقول لك. لقد أقسمت على المحافظة على السر”.

عن مقال نشر في صحيفة “لوريون لوجور” بالفرنسية .