عن التوازن الاستراتيجي الإقليمي

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

تعيش المنطقة العربية حالة من الغليان والاضطراب، ويستفيد من تلك الأوضاع المُتربّصون شراً بمصالح العرب، وفي المُقدِمة منهم قادة «إسرائيل»، كما يتطاول على المُقدرات العربية بعض الطامعين من القوى الدولية الكبرى، ومن الدول الإقليمية المحيطة. وتلك القوى وهذه الدول، كانت سبباً رئيسياً في تفاقُم الأزمات، وساهمت في إنتاج المآسي التي طالت بعض الدول العربية، وألحقت كوارث إنسانية بحق شعوبها.
توجد حالة من الاختلال في التوازن الاستراتيجي الإقليمي منذ فترة زمنية طويلة في المنطقة الشرق أوسطية. يعود أحد أهم عوامل هذا الاختلال إلى تراجُع منسوب الدور العربي الذي يُشكل القاعدة الأساسية لحفظ ذلك التوازن. كما أن هناك عوامل أُخرى ساهمت في إحداث خلل ضمن هذا التوازن، عنيت الأطماع العدوانية «الإسرائيلية»، وتأثيرات «اللوبي الصهيوني» على بعض دوائر القرار، خصوصاً الموجودة في موسكو وواشنطن. السياسة العدوانية «الإسرائيلية» رأت في الانتفاضات التي حصلت على الأنظمة القمعية في بعض الدول العربية، فرصةً لإضعاف قدرات الدول المحيطة بالكيان «الإسرائيلي»، ولزيادة الحصار على الشعب الفلسطيني وطمس قضيته العادلة.
وساهمت الانفلاشات المُؤذية التي تعتمدها السياسة الإيرانية في إحداث هذا الاختلال، وكذلك في تعميم لغة التطرف والجنوح عند بعض الشرائح الشعبية، وفي إنشاء ميليشيات محلية في أكثر من دولة عربية، كان لهذه الميليشيات دور كبير في إضعاف مقومات هذه الدول، كما عممت نموذج الفوضى في المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومع هذه الفوضى، انشغلت بعض الدول العربية في همومها الداخلية، وانصرفت عن مواجهة التحديات الخارجية، ومنها خاصة مواجهة العدوان «الإسرائيلي».
الدول العظمى – لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا – ارتاحت للاختلال الاستراتيجي في المنطقة، وهي ساهمت في فكفكة بعض الكيانات العربية، وخدمت مشروع التفتيت الذي طال عدداً من الدول العربية. واشنطن غيرت من سياستها تجاه النظام في سوريا منذ تخليه عن الأسلحة الكيميائية، وانقضت على «جنيف 1 وجنيف 2»، وموسكو أصبحت منذ صيف 2015 جزءاً من الآلة الحربية للنظام في مواجهة المعارضة، بعد أن أوشك الأخير على السقوط. هذا الموقف وذاك كانا عاملين أساسيين في إطالة أمد الحرب والفوضى والمآسي الجارية.
انشغال مصر في ملفاتها الداخلية، إضافةً إلى همومها الأمنية المُتفاقِمة في سيناء، كان له الأثر الكبير في تراجع الدور العربي، وبالتالي ساهم في توقيف المبادرة العربية في كل اتجاه، لاسيما الفشل الذي أصاب هذه المبادرة تجاه سوريا.
وحده الموقف السعودي يتماسك في مواجهة الاختلال الاستراتيجي الحاصل، والرياض مع حلفائها الخليجيين يلعبون دوراً متقدماً في سياق الحفاظ على ما تبقى من حضور عربي، في ظل غياب الدور المؤثر للدول العربية الأخرى، من جراء الانشغال في الهموم الداخلية.
جردة الحساب التي تطال الدول المؤثرة إقليمياً في هذه الفترة الحساسة من تاريخ المنطقة، ترسو من غير شك على أربع دول، هي: إيران، و«إسرائيل»، وتركيا والمملكة العربية السعودية.
ما حصل في تركيا مؤخراً سيؤدي حكماً إلى تراجع في دور أنقرة على المستوى الخارجي، لا سيما على تأثيراتها في الملفات الإقليمية الساخنة – تحديداً في العراق وسوريا – والانعطافة الغريبة التي اعتمدها الرئيس رجب طيب أردوغان قبل محاولة الانقلاب في17/ 7 2016، أوشكت أن تخلق اضطراباً جديداً في التوازنات الاستراتيجية أكثر مما هو عليه الحال، لمصلحة المحور الذي يريد إطالة أمد الفوضى والحروب، ومن هذه الانعطافات خاصة: انفتاح أردوغان السريع على السياسة الروسية، ومُهادنتهِ لطهران، واندفاعته غير المُبررة تجاه «إسرائيل». وهذه التغييرات التي حصلت قبل محاولة الانقلاب، مُضافةً إلى ما ستُحدثهُ مفاعيل الانقلاب الفاشل من تراجع لدور تركيا الإقليمي، ستلقي بأعباء كبيرة على الدور السعودي الإقليمي الذي يحتاج من دون شك إلى استنهاض للدور المصري، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى.
لا يوجد تعارض جوهري بين انفلاش الطموحات الإيرانية، وبين العدوانية التي ينتهجها قادة «إسرائيل». كلا المشروعين يُساهمان – عن قصد أو عن غير قصد – في تدمير الطاقات العربية والإسلامية، ويبدو الفريقان مُرتاحين على نفس القدر من غياب الدور العربي الفاعل والمؤثر، وتراجع الاهتمام الأمريكي في شؤون المنطقة، شرع الأبواب على مصراعيها أمام الأطماع الإقليمية والدولية.
تأكيدات بعض المسؤولين الأمريكيين عن استمرار الاهتمام في توازنات المنطقة، ليست جدية على ما يبدو، وهي تأكيدات كلامية ليس لها مفاعيل على أرض الواقع، وساهمت في الاختلال الاستراتيجي الذي أصاب الشرق الأوسط لمصلحة القوى المعادية للمصالح العربية.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية