العدوان المتجاوز كل الحدود

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

لم يسبق أن وصل تمادي العدوان «الاسرائيلي» المدعوم من بعض القوى الدولية إلى هذا الحد من الوحشية، وفيه تمادٍ غير مسبوق لا يُقيم أي احترام للشرعية الدولية، ولا لمشاعر الأمة العربية جمعاء. وهو عدوان مبني على الاستبداد، وتزوير الوقائع التاريخية، وينتهك المشاعر الإسلامية والمسيحية، من خلال التعرّض الوقِح لمقدساتهم في مدينة القدس، وغيرها من الأماكن في فلسطين.

والاحتفالية التي حصلت في القدس المحتلة الأسبوع الفائت بمناسبة افتتاح سفارة الدولة الأعظم في العالم، بعد اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب بالمدينة عاصمة لـ»إسرائيل» منتصف يناير/ كانون الثاني 2018؛ تجاوزت في صلفها كل الحدود، وأثارت الغليان في مشاعر الملايين من الناس، وشكلت استفزازاً لا يمكن السكوت عنه، وترافقت مع عدوان وحشي نفذته سلطات الاحتلال بالرصاص الحي ضد المدنيين العُزل في قطاع غزة وفي الضفة، بينما كان هؤلاء يتظاهرون احتجاجاً على العدوان الصارخ بحق القدس.

إن اعتبار القدس عاصمة للدولة المغتصِبة «إسرائيل» انتهاك صارخ لقرارات الشرعية الدولية، لا سيما قرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصاً القرار رقم 194 للعام 1948 (الذي ينصّ على حق العودة)، والقرار رقم 242 للعام 1967 (الذي يطلب من الاحتلال «الإسرائيلي» الانسحاب من كل الأراضي المحتلة بما فيها القدس)، والقرار رقم 271 للعام 1969 (الذي يطلب من قوات الاحتلال عدم القيام بأي أعمال يمكن أن تُغيِّر وضعية مدينة القدس)، والقرار رقم 2334 للعام 2016 (الذي يطالب بوقف الإستيطان، ومنع الاستيلاء على الأراضي بالقوة في القدس والضفة الغربية)، فضلاً عن عشرات القرارات والتوصيات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنظمة «اليونيسكو» التي تعتبر القدس مدينة عربية محتلة، تحتوي على مخزون هائل من الآثار ألإسلامية والمسيحية، المدموغة بالكتابات العربية.

لقد تجاوز العدوان «الإسرائيلي» لكل الحدود؛ فرض أشكالاً جديدة من المقاومة الميدانية والدبلوماسية، وبواسطة القضاء الجنائي الدولي.
وانطلقت التظاهرات المعارضة لتهويد القدس في كل أنحاء فلسطين، وفي مناطق عدة من العالم. وسقط في بعض هذه التظاهرات في غزة وغيرها، أكثر من 60 شهيداً فلسطينياً برصاص العدوان « الإسرائيلي».

ودفع الغليان العربي مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية إلى عقد جلسة طارئة بدعوة من المملكة العربية السعودية في مقر الجامعة في القاهرة. وصدرت عنها توصيات توحي برفع مستوى المواجهة العربية للعدوان، واهمها تكليف الأمانة العامة للجامعة بوضع خطة لمواجهة أي قرار، من أي دولة ترغب في نقل سفارتها إلى القدس، تحت طائلة قطع العلاقات معها، كما طلب مجلس الجامعة من واشنطن التراجع عن قرارها نقل السفارة إلى القدس، على اعتبار أن قرار نقل السفارة باطل، وفقاً لأحكام القانون الدولي.

والمواجهة الدبلوماسية لتهويد القدس شملت عواصم غير عربية، وبعض برلمانات الاتحاد الأوروبي، وعدداً من الدول الإفريقية، والأمريكية، التي أكدت أن اعتبار القدس عاصمة ل»إسرائيل» يتناقض مع أحكام القانون الدولي، ويخالف الشرعية الدولية.

وفي جانب المواجهة القضائية؛ رفع وزير الخارجية الفلسطيني شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ضد قادة الجيش «الإسرائيلي» على خلفية ارتكابهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني، وتحميلهم مسؤولية الانتهاكات الصارخة لمعاهدات جنيف الأربع التي تُشير إلى مسؤولية قوات الاحتلال عن سلامة المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، وعن مسؤوليتها عن تغيير بعض الوقائع والشواهد التاريخية في الأراضي المحتلة، إضافة إلى إنشائهم مستوطنات على أراضي الغير، تخالف القرار رقم 2334.

إن قرار السلطة الفلسطينية نقل الجرائم «الإسرائيلية» إلى المحكمة الجنائية الدولية كان محل ترحيب في الأوساط الشعبية الفلسطينية والعربية، لكنه أثار امتعاض الإدارة الأمريكية التي كانت تربط عدم القيام بهذا الإجراء بتقديم المساعدات للسلطة الفلسطينية.

لقد شكلت عملية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في هذا الوقت بالذات، صدمة للشعوب العربية والإسلامية برمتها، التي كانت تتطلع إلى قيام واشنطن بدور إيجابي في حل المشاكل المتفاقِمة في الشرق الأوسط، وفي رعاية عملية السلام وفقاً لقرارات قمة بيروت العربية للعام 2002، وكذلك كبح جماح التدخلات الخارجية في شؤون بلدان المنطقة، ومكافحة الإرهاب والدول الداعمة له، الذي يهدد استقرار البشرية جمعاء.

لا يمكن إضفاء مشروعية على عمل عدواني يغتصب حقوقاً مشروعة بالقوة. وبالتالي فإن القدس لن تكون إلا عربية تحتضن مقدسات الديانات السماوية جمعاء. ومصالح الدول الكبرى، أو بعض قادتها؛ يمكن أن تؤثر آنياً في واقع الحال، ولكنها لا يمكن أن تلغي حقائق دامغة تؤكد أن القدس عربية، وستبقى كذلك إلى الأبد.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية

إعادة خلط الأوراق في العلاقات الدولية