عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

صحيح أن المصالح هي التي تقف وراء سياسة الدول على الدوام، ولكن الصحيح أيضاً أن صراع الدول، والحروب فيما بينها، كانت تخفي طموحات عقائدية، أو أنها تحمل شعارات فكرية، أو دينية، أو سياسية متقابلة، يعمل الفرقاء المتنازعون على تحقيقها، أو التلطي خلفها لتحقيق الأهداف الحقيقية غير المُعلنة.
لقد تطور مفهوم العقيدة السياسية عند الدول أو القادة. كما أن هذه العقائد غالباً ما كانت تستغل المشاعر الدينية أو القومية أو العرقية أو الوطنية أو الأممية. وكانت الأفكار والإيديولوجيات التي تُقارِب الجانب الاقتصادي أو المعيشي للناس نمطاً من أنماط الصراع لحقبة طويلة من الزمن، حيث انقسم العالم لأكثر من نصف قرن بين اليمين واليسار، وما يرمز إليه كل من هذين المفهومين من رؤى. فتحمل اليمينية منه؛ ليبرالية تقليد أو محافظة، بينما ترمز اليسارية إلى طبقية تغلُب عليها فئات العمال والمزارعين والكادحين. وكانت الديمقراطية تترنح بين هذا المفهوم وذاك، يأخذ كلٌ منها ما يريد من رحيق أغصانها الطرية الأخاذة.
تلك كانت حالة الغزوات القديمة، والحروب الصليبية والفتوحات، ومن ثم الاحتلالات التي تحولت إلى انتداب. كلٌ من هذه الحالات كان لها شعارها، وغالباً ما كان للعقائد الدينية تأثيرها في الصراع الدولي. ويُحكى عن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، أنه وزَّع بيانات مكتوبة في كبرى المدن المصرية بواسطة مؤيدين سريين قبل غزوه لمصر في العام 1899، يقول فيها: إنه «قادم للمحافظة على الإسلام والمسلمين من أعدائهم»، هادفاً من وراء ذلك استعطاف أغلبية الرأي العام المصري المُتعلِّق بعقيدته الإسلامية ولا يرضى بإذلالها، إذا ما دخل قائد غير مُسلم واحتلَّ البلاد.
أما القائد النازي أُدولف هتلر؛ فقد استخدم شعارات شعبوية عنصرية ليكسب تأييد المواطنين الألمان والسير خلف نزواته المتهورة، واعداً الألمان بأنهم سيحكمون العالم بأسره، فكان ما كان، وجرَّت عقيدته العنصرية ألمانيا والعالم بأسره إلى مآسٍ لا تُنسى.
مهما يكُن من أمر، فإننا نرى أن الثابت عبر التاريخ هو دوام وجود العقائد السياسية للدول الكبرى. وعلى أقل تقدير فإن المئة سنة الأخيرة من هذا التاريخ حملت أفكاراً مُتباينة عند الدول العظمى التي غالباً ما تتحكَّم بمسار العلاقات الدولية.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1990؛ عاش العالم عشر سنوات غلبت عليها نزعة الانتصار عند المعسكر الغربي، وتفرَّدت الولايات المتحدة بقيادة الحراك الدولي، وشنَّت عدة حروب في العراق وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة وبنما وغيرها، تحت شعاراتٍ غير واضحة.
تغلبُ على المرحلة التي نعيشها اليوم على المستوى الدولي؛ سمة الاضطراب العقائدي، أو الضياع العقائدي العام. وإخفاق بعض الناشطين على الساحة الدولية -لا سيما بعض رؤساء الدول الكبرى، واضحٌ- بحيث أن هؤلاء لم ينجحوا حتى الآن في تكوين «سلَّة عقائدية» واضحة لمجموعة أفكارهم الطموحة أحياناً. وغزارة الأفكار التي يُطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر «تويتر» لا يمكن اعتبارها عقيدة متماسكة، أو متكاملة، ومَن اعتبرها كينزية جديدة (نسبة إلى عقيدة كينز الاقتصادية، أي دعه يعمل ودعه يمر) لم يجد الحجّة الكافية التي تُدعِّم مقاربته، لأن تلك التغريدات مُتهمة بأنها تحمل بعض الانحياز القاري، أو المناطقي، ولا تُعامل الجميع بسواسية، وهي محكومة بتعهدات انتخابية غير سويّة، برزت واضحة من خلال قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس العربية.
أمَّا الوثبات التي حققتها الصين -خصوصاً في المجالات الاقتصادية- فلا يمكن تجاهُل تأثيراتها الواسعة، ولكن في ذات الوقت، لا يمكن اعتبارها مشروع عقيدة سياسية عالمية. والحضور البارز والمؤثر على المستوى الدولي لكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لا يعني بأي حال من الأحوال أن لكل منهما رؤية شاملة ومتكاملة لعقيدة سياسية دولية تتمحور حول إحداها الصراعات الدولية، بل على الغالب، يتم تصنيف رؤية كل منهما على أنها، استعادة بوتينية للأمجاد القيصرية، وطموح ألماني مُتجدّد لأخذ دور متقدم في قيادة أوروبا.
لم ينجح شعار محاربة الإرهاب في خلق محورية دولية مُتماسكة، خصوصاً بعدما انكشفت استهدافاته للإسلام عامةً ومن دون وجه حق، رُغم أن الإسلام هو أكثر مَن تضرَّر من الإرهاب. ولم تتوضَّح ملامح أي من الطروحات الجديدة على كونها مؤهلة أن تكون عقيدة سياسية دولية، أو إحداها على الأقل.
لقد غابت مفاهيم كثيرة عن الصراع الدولي من دون أن تتبدل بمفاهيم جديدة أكثر عصرية وعدالة ومساواة سياسية واجتماعية واقتصادية.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية

إعادة خلط الأوراق في العلاقات الدولية