يا ليتنا نتمكن من قتل الموت ووقف المذبحة

منير بركات (الأنباء)

تتفتح شهيتنا البيئية في مجتمع النفايات في تحليل الظواهر القائمة على إنقراض كل شيء ومن قلب التصحر الإسمنتي وتراكم النفايات وإستحكام قانون التقادم القصير في حياة الإنسان وكل ما يحيط به من مقومات الاستمرار. إن الأبنية الحديثة التي تقام في مدننا لا سيما في العاصمة بيروت وأسواقها لن تدوم ما دامت البيوت التي شيدت في القرون السابقة، إن تسريع ظاهرة التقادم ربطا بالاستهلاك وتوخي الأرباح مقرونا بتقلبات الأذواق تلك هي عملية التقصير “النفسي الاجتماعي التكنولوجي” ولا يعفى من تطبيق هذه القاعدة أي شيء، ولا حتى الدمى التي يقتنيها الأطفال.

لتخترق التربية والثقافة والعوامل النفسية والحصول على دمية جديدة يشكل تكيفا للأذواق السائدة، ولكنه يعد أيضا بمثابة تغيير الطفل دميته كما يبدل قميصه. أليس في ذلك في الوقت نفسه، بالنسبة للطفلة الصغيرة التي ستنجب في يوم من الأيام أطفالا، فقدان لذلك الارتباط الوجداني التي كانت تحسه أمهاتنا إزاء دميتها؟ وكيف لنا ألا نرى إعدادا للطفلة منذ نعومة أظافرها لحوادث الطلاق المتكررة والزيجات المتعاقبة على نحو ما يحصل حيث يتخلى الناس عن أقرانهم بنفس سهولة التخلي عن أشياءهم؟ ومن الأمور ذات المغزى أن التقادم يحل أيضا بالاشياء ذات الطابع الثقافي المحض.

نفايات

فهذا كتاب نال جائزة وكان مصدر فخر لمؤلفه منذ عشر سنين، يختفي من مكتباتها ما لم يسعده حظ استئناف حياة جديدة في طلة جديدة. ومن ذَا الذي يذكر هذا المؤلف الموسيقي أو ذاك، الذي كان منذ سنوات يستأثر بقلوب الجماهير ثم إكتسحته الموجة العارمة لمنتجات هذا القرن؟ لولا بعض مبادرات الأصالة من السيدة نورا جنبلاط وغيرها في مهرجانات بيت الدين وما لاستضافة الفنان مرسيل خليفة إلا تحريك للذاكرة الوطنية والكلمة الملتزمة والمخاوف أن ينتهي بِنَا الامر إلى التساؤل “عما إذا كان الإنتقاء الثقافي، خليفة الأنتقاء الطبيعي”، سيورث الأجيال المقبلة شيئا من منتجات عصرنا. وإزاء هذا التطور العنيف الذي يهز كيانه، يقاوم الإنسان بما في متناوله من وسائل وإمكانات.

فعلى غرار ما فعله أسلافه يحاول الحفاظ على أشياء تفوق بكثير قيمتها العملية: ذكريات الاسرة، أشياء قديمة، أدوات ترميم عتيقة يمكن أن تصبح هي الأخرى وسيلة لتأكيد رفعة مرتبته. وهكذا نشهد تكاثر باعة الآثار القديمة. صحيح أنه لا تزال توجد بعض القصور بل وأيضاً بعض الكنائس والجوامع التي نجت بأعجوبة من أعمال النهب والتدمير الذي توسع نطاق تخريبه في السنوات الأخيرة.

صحيح أننا لم نعد في زمن التحمس البالغ لصالح الجماعة وأصبحت المسائل مرتبطة بتخليد الفرد في العالم أجمع مثلا الولايات المتحدة الأميركية عدلت عن إستكمال بناء كاتدرائية القديس يوحنا في نيويورك على الرغم أنها بقيت قيد التشييد خمسين سنة، أو البطء الذي كانت تسير عليه إقامة كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة بوضوح أن زمن المغامرة العظيمة قد ولى ولن يعود.

كانت أكبر دول العالم لم يكن سكانها يتجاوز عشرات الألوف عندما شيدت الآثار العظيمة التي تحدت القرون. أما في الوقت الحاضر الشركات الكبرى تقوم بتشييد المباني تمجيدا لها لتصبح المحال التجارية الكبرى أو العملاقة هي كاتدرائيات الأزمنة الحديثة في حين أن المصارف، التي تغطى أرضها وجدرانها بالرخام، هي بمثابة القصور أو الحصون. أردت في هذا العرض أن أكشف مخاطر طلاق الإنسان مع تاريخه وتفكك الوفاق بين الإنسان والطبيعة في ميزات عصر يدمر الإنسان نفسه وتذهب به الحياة إلى الموت المحتم وليس موت الجسد لا بل موت الحياة نفسها وَيَا ليتنا نتمكن من قتل الموت ووقف المذبحة.

———————————

(*) رئيس الحركة اليسارية اللبنانية